ناصر ياسين | الجمعة، ٤ كانون الثاني/يناير ٢٠١٩
ندخل بعد أشهر قليلة السنة التاسعة للأزمة السورية، والسنة الثامنة لأزمة تهجير أكثر من 12 مليون شخص من الشعب السوري. 6.2 مليون منهم نزحوا داخل بلدهم وحوالي 5.6 مليون لجأوا إلى دول مجاورة لسوريا، استقرّ أكثر من مليون منهم في لبنان وحده (تقدّر المفوضيّة الساميّة لشؤون اللاجئين عدد النازحين السوريين المسجلين في لبنان بـ 950 ألف نازح).
ومع استمرار الأزمة ينهش الإنهاك بما تبقى من قدرة اللاجئين على البقاء والاستمرار بالحدّ الأدنى من مقومات الحياة عبر ما ينتجون ولو قليلاً، أو ما يتلقون من مساعدات عبر المؤسسات الدولية والجمعيات غير الحكومية.
ومن المتوقع أن يشتدّ هذا الإنهاك في الفترة المقبلة، حيث أن معدّلات الفقر خلال السنوات الثلاث أو الأربعة الماضية لا تزال بمستويات عالية حيث يقبع حوالي 70% من اللاجئين السوريين في لبنان تحت خط الفقر، كما يسكن أكثر من الثلث (36%) في منازل أو أماكن دون المستوى الإنساني المطلوب، وأكثر من نصف (54%) الأطفال في عمر الدراسة (3-18 سنة) خارج المدارس.
ويضرب الإنهاك المجتمعات اللبنانية المضيفة، خاصةً وأن أكثرية السوريين يسكنون في المناطق الأكثر فقراً في لبنان، أي في الشمال والبقاع وضواحي المناطق المدينية. ويؤدي هذا الإنهاك إلى تنامي العلاقات السلبية والتوترات الاجتماعية في أوساط المجتمعات المضيفة. فعلى سبيل المثال، يَعتبر حوالي 93% من اللبنانيين المضيفين أن السوريين يضغطون بشكل كبير على الموارد، كالمياه والكهرباء، في المناطق التي يعيشون فيها.
لماذا وصلنا إلى هنا؟
من أسباب وصولنا إلى حالة الإنهاك هذه وتجليّاتها هو طبيعة العمل الإغاثي وآليته. فالعمل الإغاثي للاجئين هو في طبيعته قصير الأمد ويهدف إلى إسعاف المهجرين المحتاجين خلال فترة زمنية محدودة. على أن يتحول العمل، نظرياً على الأقل، إلى تدخلات أكثر استدامة مثل توطين اللاجئين في بلدان اللجوء ومساعدتهم على الانخراط في مجتمعاتهم الجديدة، أو تأمين العودة الآمنة والطوعية، أو الانتقال إلى بلد ثالث لاستيطانه. ويظهر حالياً في لبنان عسر وتعثر الحلول الثلاث.
ولهذا العسر أسباب ثلاث:
أولاً في حجم الأزمة: إن كتلة اللاجئين السوريين الذين نزحوا إلى لبنان كبيرة جدًا حيث أنها تشكِّل 20 إلى 25% من عدد السكان، وهذه حالة غير مسبوقة، لا يمكن لأي اقتصاد أن يمتصّ الناشطين الاقتصاديين منها (أي كتلة اللاجئين) ما يؤدي إلى توترات اجتماعية بسبب المنافسة على موارد قليلة.
ثانياً في التاريخ: إن تاريخ وجود عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والعلاقة "الملتبسة" مع جزء كبير من اللبنانيين في الذاكرة الجماعية اللبنانية، يُثقل تفكيرنا الهادئ بكيفية التعاطي مع أزمة اللجوء السوري، ويزيد من تصوراتنا السلبية تجاههم.
ثالثاً في مبدأ المسؤولية المشتركة بين دول العالم: إن هذا المبدأ في خفوت مستمر، فقضايا الهجرة واللجوء أصبحتا من القضايا الشاغلة للسياسة والمجتمع في أوروبا ودول الشمال، غالباً لتخفي خوفاً ثقافياً مضخماً من "الغرباء". وأدى إستخدام هذا الخوف المتجذِّر إلى صعود كبير للحركات السياسية الشعبوية التي يرتكز خطابها على بناء الجدران والانغلاق وضرب مبدأ التضامن العالمي في حالة الأزمات في عرض حائط القومية الشعبوية. فالنقاش الذي حصل حول ميثاق الهجرة العالمي، الذي تمّ التوقيع عليه في مراكش الشهر الماضي هو خير مثال على هذا الوضع. فالميثاق الغير ملزم تمَّ وصفه بأنه "اتفاق مع الشيطان" من قبل رئيسة حزب التجمّع الوطني الفرنسي مارين لوبان، وأدّى إلى هزّات سياسية في بلجيكا وانسحاب دول أخرى منه.
المقاربة اللبنانية:
في أزمة ضاغطة وواقع مأزوم يظهر غياب استراتيجية وطنية متكاملة لكيفية التعاطي مع هذه القضية الشائكة، وهذا يعود إلى الأسباب المذكورة أعلاه. ولكن السبب الأهم هو غياب الرؤية الحكومية الواضحة والموحّدة تجاه التعاطي مع هذه الأزمة. وهذا ما جعل كل جماعة ومجموعة وأحيانًا سلطة محليّة في لبنان تخيط "سياستها العامة" تجاه الأزمة حسب ما تمليه مصلحتها السياسية والشعبية الضيقة.
وأدى غياب "الدولة" بشكلها الجامع إلى تعاطي الإدارات الحكومية مع الأزمة بالقطعة حسب اهتمامها وغالباً بناءً على أجندة المانحين ومستوى العلاقة معهم، ما أعطى منطق "استجداء المعونات" أولوية في الخطاب والموقف الرسمي.
بالتوازي مع غياب الرؤية الحكومية الموحّدة، تظهر النظرة الأمنية للتعاطي مع الأزمة أكثر وضوحاً وحزماً إن من خلال المتابعة اليومية لمجتمعات اللجوء أو لإدارة ملف العودة.
ما العمل؟
نحن مدعوون إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر الحل الهادئ والعملي والواقعي عماده وضع استراتيجية وطنية متعددة الجوانب منها:
الجانب الدبلوماسي: وخاصة في ما يتعلق باتباع سياسة خارجية واضحة تجاه الحلّ السياسي في سوريا. وكذلك العمل على بناء تحالفات مع دول نامية أخرى مستضيفة للّاجئين للعمل سويًا على تحسين شروطها دوليًا.
الجانب الاجتماعي: العمل على تعزيز التدخلات التنموية خاصة على المستوى المحلي ما يمكنه أن يخفف الاحتقان بين المجتمعات المضيفة واللاجئين.
الجانب الاقتصادي: مع التركيز على تنظيم العمالة وتحديد القطاعات الاقتصادية التي ممكن ان تستخدم لاجئين.
الجانب القانوني: لتنظيم إقامات اللاجئين السوريين وتسجيل ولاداتهم وزيجاتهم مما يؤمنه ذلك من حماية قانونية لهم الآن وفي المستقبل.
بالإضافة إلى الجانب الأمني على أن يكون التعاطي مع مسألة اللاجئين عادلاً وشفافاً وضمن أطر احترام حقوق الانسان والإلتزامات لبنان الدولية.
ناصر ياسين، مدير الأبحاث في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت وأستاذ السياسات العامة والتخطيط في كلية العلوم الصحية في الجامعة، ومنسق مبادرة الجامعة الأميركية من أجل اللاجئين.
ينشر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت أسبوعيًا سلسلة من المقالات حول مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات العامة والمرتبطة بالأبحاث والإنتاج الفكري الذي يصدره المعهد. تهدف هذه المقالات إلى تحليل الوضع القائم والبناء عليه لتقديم اقتراحات عملية للعام ٢٠١٩ قد تُلهم صناع السياسات وأصحاب القرار والمهتمين بإيجاد حلول للأزمات القائمة وسبل للتطوّر والتقدّم في مجالات مختلفة
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.