تتكاثر منذ فترة الدعوات على مواقع الشبكات الاجتماعية لأشكال مختلفة من المؤانسة الأدبية كحلقات القراءة وأندية المطالعة[3] ولقاءات يتخلّلها مراجعة الكتب ومناقشتها، سواء في حضور مؤلفها أو في غيابه. ولم تحد جائحة الكورونا وضرورة التباعد الاجتماعي من تلك النشاطات، التي نراها اليوم تأخذ صيغة اللقاءات الافتراضية، مستفيدة من الإمكانيات التكنولوجية لتوسيع دائرة المشاركة عبر استضافة الأدباء والقرّاء من أنحاء مختلفة من العالم. وتأتي هذه الظاهرة لتنقض الفكرة السائدة أن القراءة ممارسة انفرادية وفردية بامتياز، وأن طبع القارئ انزوائي منغلق على الآخرين.
في الواقع، لم تكن القراءة على مدار التاريخ انفرادية وفردية. وقد اتخذت مشاركة القراءات أشكالًا مختلفة حسب الأزمنة ووفق الفئات الاجتماعية المعنية: منذ أيام القراءات الجماعية لأناس ما زالوا أميين في الغالب، مرورا بالصالونات الأدبية للطبقة الأرستقراطية الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وصولاً إلى مجموعات القراءة والنقاش في أيامنا هذه. ولم تتسم هذه الأشكال من القراءات الجماعية بالتكافؤ الاجتماعي- الثقافي بين أشخاص هذه المجموعات، إذ غالبا ما كانت القراءات مرتبطة بالسلطة الأخلاقية أو الدينية أو الاقتصادية أو الحكومية، كوسيلة لتعزيز هيمنتها، وذلك حتى زمن ليس ببعيد.
هكذا كانت قراءة النص التوراتي في المجتمع البروتستانتي تجمع حول والد الأسرة جميع سكّان المنزل بما فيهم العاملين والخدم. وفي قاعات الأديرة، كان الراهب يقرأ لزملائه نصوصًا دينية تدعو إلى الخشوع والتأمّل. أمّا في مصانع النسيج في إنجلترا، في القرن التاسع عشر، فكان العمّال يستمعون خلال عملهم الى قراءة النصوص التي تهدف إلى تهذيب الأخلاق. لكن الجدير بالذكر أن عمّال معامل السيجار الكوبية استطاعوا أن يتمرّدوا على سلطة مالك المصنع في اختيار القراءات، وتمكّنوا من التفاوض على نوعية النصوص، باعتبار أنهم هم اللذين يدفعون أجر القارئ. فاستبدلوا القراءات الموجّهة أخلاقيًا والمفروضة عليهم بالروايات والمقالات الصحفية، كما أنهم وهدّدوا بالإضراب إن حُظرت هذه القراءات لكونها تثير التمرّد (Books, 2015).[4]
الصالونات والحلقات الأدبية الغربية
وفي القرن السابع عشر بدأت في أوروبا ظاهرة الصالونات الأدبية حيث كانت تتشارك النخب القراءات الشفهية للكتابات الأدبية. وقد نظمت النساء الأرستقراطيات هذه اللقاءات في داراتهن كفعل مقاومة، لتأكيد وجودهن على هامش البلاط. وكانت النساء هن اللواتي وضعن معايير المؤانسة الاجتماعية والتذوّق، ونشرن فن المحادثة واستخدام لغة فرنسية راقية، وأدخلن في صالوناتهن المؤلفين والشعراء والمفكّرين على أساس صفاتهم الاجتماعية أو الأدبية Craveri, 2001, pp. 23–41) ( ، متخطّيات الانتماءات والأصول العائلية والحواجز الطبقيّة (Leveratto & Leontsini ، 2008 ، ص 53).
ثم ما لبثت نساء الطبقة البرجوازية أن قلّدت هذا النموذج وأقامت الصالونات الأدبية والفكرية. كما ظهرت أماكن اجتماعية جديدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي المقاهي حيث تشكّلت في غرفها الخلفية الحلقات الأدبية، مكوّنة من الرجال حصريًا، لأجل قراءة الصحف والتعليق عليها، وأيضاً لمناقشة المواضيع السياسية المختلفة التي رافقت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبيرة. وبحسب هابرماس (Habermas)، ساهمت المقاهي الأدبية، إضافة إلى الصحافة المكتوبة وصالونات الطبقة الوسطى العليا، في تكوين الفضاء العام (Paquot, 2015).
طوال القرن التاسع عشر في أوروبا واميركا، وبالتزامن مع فرض الدولة إلزامية التعليم الابتدائي، أصبحت ممارسة القراءة في متناول الفئات الاجتماعية التي كانت حتى ذلك الحين بعيدة عنها، فظهرت الجمعيات الأدبية لفئات اجتماعية مهمّشة، حيث مثّلت المناقشات الفكرية فيها شكلاً من أشكال التعليم للأقل إلمامًا بالقراءة والكتابة وفرصة للجميع للتدرب على المشاركة في الحياة العامة. وهذه كانت، مثلا، حال المهاجرين في كندا، الذين أسسوا في القرن التاسع عشر العديد من المجموعات الأدبية.
كذلك، شكّلت اللقاءات الأدبية في أمريكا الشمالية، وسيلة لاكتساب النساء المهمشات آنذاك الاعتراف الاجتماعي. ففي عام 1778، تم إنشاء أول جمعية أدبية نسائية في بوسطن، حيث كانت الغاية المعلنة من إنشائها تمكين النساء من دراسة العلوم والآداب. وفي أوائل القرن التاسع عشر، بدأت الشابات في الالتقاء في تشارلستون، ماساتشوستس عام 1813، لمناقشة الإلياذة والشعر والمقالات المختلفة (Long, 1986, p. 591; Otto, 2009). وتحوّلت بعض الجمعيات الاجتماعية إلى حلقات قراءة، كنوع من المقاومة النسائية للإقصاء الذي يفرضه عليهن المجتمع، وفرصة للتواصل الاجتماعي والتعبير عن أنفسهن خارج حدود الفضاء المنزلي. وفي إطار هذه الجمعيات، تشجعت النساء على إسماع أصواتهن، وتدرّبن على التنظيم والتصرّف، واهتممن بالمشاكل الاجتماعية، وعملن على إنشاء المدارس والمكتبات العامة، وناضلن من أجل قوانين ضد استهلاك الكحول والمخدّرات، وحماية النساء والأطفال. وشارك البعض منهن في حركة حق النساء بالاقتراع ( السافراجيت suffragettes). (Long, 1992, p. 113; Redberg Sedo, 2004, p. 19; Taylor, 2007, p. 11) .
وبينما كان التعليم الجامعي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في الولايات المتحدة لا يزال مغلقًا أمام النساء، تضاعفت الجمعيات الأدبية كفرصة لاستكمال تعليمهن ((Taylor, 2007, p. 11. ففي نهاية القرن التاسع عشر، قُدّر أن أكثر من مليوني امرأة أمريكية شاركن في الجمعيات الأدبية (Redberg Sedo, 2011, p. 4).
لم تكن النساء في القرن التاسع عشر فريدة في إنشاء مجموعات القراءة والجمعيات الأدبية، فالفئات المهمّشة الأخرى وجدتها أيضًا وسيلة للترقّي الاجتماعي وتأكيد الهوية. فسعى الأميركيون الأفارقة، مثلاً، إلى تحسين أحوالهم والارتقاء بمستواهم الثقافي- الاجتماعي من خلال اللقاءات الأدبية، ليصبحوا مواطنين مستنيرين يمكنهم خدمة مجتمعاتهم، وتأكيد مكانتهم في المجتمع الأمريكي. كانت التجمّعات الأدبية في البداية محصورة بالرجال، وشكّلت فضاءات لتبادل المعرفة والتشجيع على تعلّم القراءة والكتابة، ومساحات للنقاش حول أوضاعهم الاجتماعية وحقوقهم المدنية. وقد تم إنشاء إحدى الجمعيات الأولى في فيلادلفيا عام 1828، وتبعتها جمعية في نيويورك عام 1829، ثم جمعيات أخرى في عدد من مدن الشمال، ومن ثم أولى الجمعيات النسائية للأميركيات الأفارقة، الجمعية الأدبية النسائية عام 1831، والجمعية الأدبية للسيدات عام 1834. ومن القراءات التي كانت تجري مناقشتها، إلى جانب الأعمال الإنجليزية الكلاسيكية، نصوص قانونية وأخبار وطنية ودولية ومنشورات وخطب(Muhammad, 2012, p.75-76) . وهكذا شاركت هذه الجمعيات الأدبية للأميركيين الأفارقة في ظهور صحافة، ومن ثمّ فضاء عام، خاص بهم ((Elizabeth McHenry, cited by Burwell, 2007, p. 284.
إلى ذلك، شهدت العقود الأولى من القرن العشرين مبادرات لتشجيع القراءة من أجل التعليم الذاتي في أمريكا الشمالية، مثل The Great Books Foundation و The Great Books Program، التي انطلقت من مبادرة أستاذ في جامعة كولومبيا. نظّم هذا الأخير طلابه في حلقات نقاش، ضمن مادة تدريسه للأدب الكلاسيكي، فغدت مبادرته برنامجًا وطنيًا، شاركت فيه المكتبات العامة الأميركية لعقود عدة (Taylor, 2007, p. 13).
وعادت مجموعات القراءة النسائية للظهور مع الحركات النسوية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. لكن هذه لم تعد تشبه تلك الخاصة بأسلافها من الجمعيات، إذ كان التعليم الجامعي قد أصبح متاحًا للنساء وصار للعمل الاجتماعي قنوات ومجالات جديدة يمكن المشاركة فيها. لكن هذه الجمعيات وفّرت للنساء فسحة متميّزة بالتعبير عن ذواتهن وإحباطاتهن في ما يتعلّق بالتمييز الجنسي في المجتمع، واكتساب الوعي الجندري والإسهام في صياغة المفاهيم النسوية (Harland cited by Reberg Sedo, 2004, p.24)، إضافة إلى الترويج للمشاركة في فعاليات حركة تحرير المرأة.
أدى التغيير الاجتماعي في نهاية القرن العشرين، والتحوّلات الجذرية في وسائل الوصول إلى المعلومات وتعميم استخدامها في القرن الحادي والعشرين، إلى الاعتقاد بأن الاهتمام بنوادي الكتاب قد تضاءل. في الواقع، يبدو أن انفجار النوادي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد تعزّز بفضل مبادرات وسائل الإعلام نفسها التي اتُهمت بقتل الكتاب. فقد أعادت أوبرا وينفري (Oprah Winfrey) إحياء سوق الكتاب في الولايات المتحدة حين أطلقت نادي الكتاب التلفزيوني في عام 1996 وشجّعت جمهورها على تشكيل أندية مماثلة، وأصبحت اختياراتها من أكثر الكتب مبيعًا على الصعيدين الوطني والدولي (Fuller & Redberg Sedo, 2013, p. 50). وظهرت برامج مماثلة على قنوات أمريكية أخرى وفي المملكة المتّحدة حيث أصبح نادي Richard & Judy للكتاب، الذي تم إطلاقه في عام 2001، لاعبًا رئيسيًا في صناعة الكتاب (Redberg Sedo, 2011, p. 7). أدت هذه المبادرات، التي حظيت بدعم وكالات التنمية الوطنية والمحلية، إلى نجاح نوادي الكتاب في العالم الأنجلوسكسوني في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين لدرجة أن عدد نوادي الكتب قُدّر بما يقارب خمس مئة ألفا في أمريكا وحدها وخمسين ألفا في بريطانيا وفق تقديرات هارتلي Hartleyعام 2002، وأربعين ألفا في كندا وفقًا لـردبرغ سيدو (ص 11، 2004، Redberg Sedo). كما انعكس ذلك على الناشرين الذين اصدروا العديد من أدلة المناقشة وكتالوجات الكتب الملائمة لنوادي القرّاء ((Murray, 2002, p. 4; Peplow et al., 2016, p. 2، ودخلت أندية المطالعة في الثقافة الشعبية من خلال الروايات والأفلام السينمائية.
المؤانسة الأدبية في الشرق الأوسط
ماذا عن المؤانسة الأدبية في الشرق الأوسط الذي شهد صعود البرجوازية المدنية خلال القرن التاسع عشر (Hokayem, 1992) وانشاء الجرائد والمجلات في القسم الثاني منه ؟
لا يعتبر التواصل الأدبي ظاهرة جديدة في الثقافة العربية؛ فهذه عرفت باهتمامها تقليديا بالكلمة، لا سيما بالمبارزات الشعرية. تذكر المصادر العربية التجمّعات الأدبية من زمن الأمويين والعباسيين، و البعض منها كانت بمبادرة نسائية (كلاس، 1996 ، ص230). وفي بغداد، في القرنين التاسع والعاشر الميلادي، أصبحت أكشاك الكتَبَة أماكن للنقاش حول الأعمال الفكرية والأدبية ومواقع لنسخها (Elsayed, 2010, p. 236).
لكن اللقاءات المنظّمة والمنتظمة للأدباء والصحفيين والمثقفين، التي ميّزت النهضة العربية، ولا سيما النهضة الثانية، والتي تهمنا هنا، تعود إلى بداية القرن العشرين؛ وهذه مرحلة اتسمت بتحوّلات اقتصادية واضطرابات سياسية في البلدان الخاضعة للسيطرة العثمانية، وشهدت ظهور نقاش عام بفضل استعادة العمل بالدستور العثماني في عام 1908. وعلى غرار نساء الطبقة الأرستقراطية والبرجوازية الكبيرة الأوروبية، كانت بعض السيّدات هن المبادرات في جمع الأدباء والمفكّرين في صالوناتهن في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ويقال إن الصحفية والشاعرة ماريانا مرّاش (1848-1919)، من الطبقة الوسطى في حلب، هي صاحبة أول صالون أدبي في شرقنا العربي. وقد أطلقته عند عودتها من فرنسا فاستقبلت الشعراء وروّجت للأفكار الحداثية، ولا سيما لصالح تعليم المرأة (فتوح ،1994، ص 146–147).
وافتتحت الأميرة نازلي فاضل (1853-1913)، ابنة أخت الخديوي إسماعيل، والعائدة أيضًا من فرنسا، صالونها للعلماء والإصلاحيين مثل محمد عبده، وقاسم أمين، وسعد زغلول، ولكنها استقبلت فيه أيضًا ممثلي السلطة الإنجليزية، واللورد كرومر ( Lord Cromer) و هربرت كتشنر(Herbert Kitchener). لم تقتصر النقاشات على المواضيع الأدبية فحسب، بل كانت أيضًا تدور حول المسائل السياسية والاجتماعية. ويقال إن نازلي فاضل كانت وراء تحوّل قاسم أمين لصالح تحرير المرأة العربية (طلعت، 2011).
وكانت زينب فواز (1850-1914) الكاتبة التي لم تعرف المناهج الدراسية ولا الثقافة الغربية، تجمع كل أسبوع مجموعة من الأدباء في منزل زوجها الثاني بدمشق، تلتقيهم وتتناقش معهم من خلف ستار احتراماً للتقاليد. ولا تحدد المصادر إن كان ذلك عن طيب خاطر أم لا (فتوح، 1994، ص 75؛ كلاس، 1996، ص 232).
وابتداء من عام 1912، جمع صالون مي زيادة (1886-1941) الشهير في القاهرة كل يوم ثلاثاء المثقفين والفنانين والكتّاب ومنهم طه حسين (الذي كان يطمح للانضمام إلى ذلك الصالون منذ كان لا يزال طالبًا) ووليّ الدين يكن وأحمد شوقي وعباس محمود العقاد وخليل مطران وروّاد الحركة النسوية العربية مثل هدى الشعراوي. وإضافة إلى القراءات الأدبية، عُزفت في هذه الجلسات الموسيقى وأُنشدت أغان أدّتها مي بنفسها (فتوح، 1994، ص. 177). وفق بثينة خالدي (Khaldi, 2012) لم يكن صالون مي زيادة مناسبة للقاءات ثقافية فحسب، بل كان أيضًا فسحة تواصل بين القادة السياسيين البارزين من مختلف الأطراف، ومنطلقًا لنشر أفكار النهضة، ما جعل منه مكوّنا من مكوّنات الفضاء العام.
ولم تلبث أن حذت نساء أخريات من الطبقة الوسطى حذو هؤلاء الرائدات، فأقامت بعض خريجات المؤسسات التعليمية للبعثات الغربية الصالونات الأدبية، ومعظمهن معلمات وصحافيات، هاويات كن أم محترفات. ولم تعد هذه الصالونات مجرّد لقاءات اجتماعية، إنما أصبحت مساحة "لتطوير عالم فكري أنثوي منظّم حول المجلات والصحف" (Dakhli, 2009, p. 207) ومنتديات لنشر الأفكار الجديدة، لا سيما في ما يتعلّق بوضع المرأة وتعليمها وحقها في التصويت والقضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية. والأشهر بين هؤلاء النساء ماري عجمي (1888-1965) في دمشق وجوليا طعمة الدمشقية (1883-1954) في بيروت، وقد أسست كلٌّ منهما مجلة مخصصة للنساء، وحبوبة حداد (1897- 1957) وهي صحافية كتبت في عدة مجلّات مختلفة. وكانت مجلاتهن أو كتاباتهن الصحافية تنقل النقاشات التي تدور في تلك الصالونات حول مختلف القضايا الاجتماعية والوطنية إلى جانب المسائل الأدبية، فأسهمت في ثقافة حركة تحرير المرأة في مصر ولبنان وسوريا وشاركت في التبادل الفكري للنصف الأول من القرن العشرين (كلاس، 1996، ص 230-252)، كما أسهمت، عبر نشر مضامين هذه النقاشات في الصحف، في التعريف بشؤون النساء وقضاياهن على ملئ الفضاء العام.
شهدت فترة الاستقلال وما تلاها تعدد أشكال التجمّعات فتشكلت الجمعيات والحلقات الأدبية والمنتديات (Bizri, 2013, pp. 118–130) التي حلّت مكان الصالونات في الفضاء العام. فتحلّق بعض الكتّاب (الرجال) حول مجلّات أدبية واهتموا بتحديث الأدب، بينما اهتم البعض الآخر، كمؤسسي الندوة اللبنانية مثلا، بفتح منتدياتهم للجمهور العام فنظّموا المحاضرات العامة في مختلف أحياء مدينة بيروت، وأطلقوا النقاشات حول القضايا السياسية في أطار السعي لبناء وطن مستقل (إدة، 2012).
ثم شهدت الستينيات انتشار الأفكار اليسارية. في الدوائر الماركسية، كنا (كاتبة هذه السطور من بينهم) نقرأ ونعقّب على النصوص التأسيسية: ابتداء من بيان الحزب الشيوعي لكارل ماركس، كقراءة الزامية لأعضاء القاعدة الشعبية، إلى 18 برومير في الأوساط الطلابية، ومخطوطات عام 1844 للمتعمّقين بالفلسفة الماركسية، وأعمال لينين لغرس مبادئ الديمقراطية المركزية بين المناضلين المتمرّسين. كان منسّق الخليّة الحزبية، في خطاباته الافتتاحية، يهاجم المناشفة (menchéviques) ويدين "مرض الشيوعية الطفولي" الذي يهدّدنا. لاحقًا، نظّمت الرفيقات المناضلات أنفسهن في حلقات نسائية لمناقشة الكتابات النسوية، مستندات بداية إلى كتابات إنجلز (Engels) عن الأسرة حتى لا يثرن ريبة رفاقهم الذكور، ثم ما لبثن أن انتقدنه، تحت تأثير سيمون دي بوفوار(Simone de Beauvoir) وكيت ميليت ( Kate Millet) (شرارة-بيضون، 2021)، قبل أن يبثثن بعض الأفكار المقتطفة بين نساء من الطبقة العاملة اللواتي تلقّينها بمشاعر مزدوجة من الدهشة والانشراح.
الخلاصة
يبدو من هذا العرض السريع لأشكال مشاركة القراءات وتبادل النقاشات حولها عبر التاريخ أنها كانت في الغالب، وحتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، مدفوعة بالرغبة في التغيير الاجتماعي والتحرر، في سياقات ولحظات من التحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في جميع أنحاء العالم: في زمن انهيار النظام الملكي في فرنسا ؛ وفي فترة الثورة الصناعية وصعود البرجوازية الصغيرة والمتوسطة في أوروبا ؛ وفي ظروف الهجرة واندماج الأمريكيين من أصل أفريقي بعد تحريرهم في القارة الأمريكية ؛ وفي زمن النضال ضد الاستعمار وبناء الدول القومية والثورات في العالم الثالث ... ترافقت هذه الاضطرابات مع تكاثر الأفكار الجديدة، وكانت الكلمة المكتوبة هي المحرّك لتطلّعات قطاعات بأكملها من المجتمع، حيث أثارت نقاشات تعبّر عن إرادة الناس حينها في تصديق أن التغيير ممكن، على الأقل على صعيد العقول.
أما اليوم، ورغم تنوّع أشكال الممارسات الثقافية وسبل التواصل والتعبير عبر الشبكات الاجتماعية، تستمر نوادي الكتاب في جذب المشاركين إليها، وهي تزداد في مختلف أنحاء العالم ومنها لبنان، حيث تجدّد الاهتمام بنشاطات مرتبطة بالكتب والمطالعة. وقد بيّنت نتائج دراسة ميدانية قامت بها كاتبة هذا المقال[5] أن اللقاءات والعلاقات الاجتماعية التي يؤمّنها نادي الكتاب ولا سيما بين أشخاص من خلفيات مختلفة هي بين أكثر عوامل الرضى عند المشاركين الراغبين في تعميق ثقافتهم وتوسيع أفقها. ويقدّر المستطلعون عاليًا فرصة الاستماع إلى آراء متعددة، وذلك في أجواء من المؤانسة الودّية الدافئة والاحترام المتبادل. فتشكّل أندية المطالعة فضاءات مميّزة للقاءات خارج الأطر العائلية والاجتماعية التقليدية، وفسحات للمناقشة الهادئة الحرّة، ومجالًا لتحليل نصوص أدبية أو علمية بهدف فهم أفضل لما يدور حولهم واختبار آرائهم وقيمهم.
وإذ نعيش اليوم فترة اضطرابات وتحوّلات سياسية واجتماعية في لبنان ومحيطه، نأمل أن تتكاثر هذه المبادرات التي تتمحور حول الكتب والإنتاج الفكري عامة، فتستعيد مكانتها في الفضاء العام.
] هذا المقال هو جزء من دراسة أوسع حول المؤانسة الأدبية والتواصل الاجتماعي حول الكتب: أندية المطالعة في لبنان (دراسة قيد النشر)
[2] أستاذة متقاعدة من الجامعة اللبنانية
[3] نادي مطالعة أو نادي كتب أو حلقات قرّاء أو مجموعات قراءة، كلها تسميات تدل على الظاهرة نفسها وسوف نستخدمها دون تفريق
[4] يروي ألبرتو مانغل أن العمال الكوبيين في معامل السيجار كانوا يستمتعون بالاستماع الى رواية Montechristo إلى حد أنهم قرّروا تسمية السيجار باسمها (Manguel, A. (2000). Histoire de la lecture. Actes Sud )
[5] المؤانسة والتواصل الاجتماعي حول الكتب: أندية المطالعة في لبنان/ مود اسطفان-هاشم. مقال قيد النشر
قائمة المراجع
Bizri, H. (2013). Le livre et l’édition au Liban dans la première moitié du XXe siècle: Essai de reconstitution d’une mémoire disparue. Université de Versailles Saint-Quentin-en-Yvelines.
Books. (2015). Hugo, héros des rouleuses de havanes. Books. https://www.books.fr/hugo-heros-des-rouleuses-de-havanes/
Burwell, C. (2007). Reading Lolita in times of war: Women’s book clubs and the politics of reception. Intercultural Education, 18(4), 281–296.
Craveri, B. (2001). L’âge de la conversation. Gallimard.
Dakhli, L. (2009). Une génération d’intellectuels arabes. Karthala.
Elsayed, A. M. (2010). Arab online book clubs: A survey. IFLA Journal, 36(3), 235–250. https://doi.org/101177/0340035210378864
Fuller, D., & Redberg Sedo, D. (2013). Reading beyond the book: The social practice of contemporary literary culture. Routledge.
Hokayem, A. (1992). L’ascension de la bourgeoisie urbaine au Liban : De l’époque des Tanzimat à celle du mandat français. Cahiers de la Méditerranée, 45(1), 203–228. https://doi.org/10.3406/camed.1992.1089
Khaldi, B. (2012). The Salon as a Public Sphere. In B. Khaldi (Ed.), Egypt Awakening in the Early Twentieth Century: Mayy Ziyādah’s Intellectual Circles (pp. 47–76). Palgrave Macmillan US. https://doi.org/10.1057/9781137106667_3
Long, E. (1986). Women, Reading, and Cultural Authority: Some Implications of the Audience Perspective in Cultural Studies. American Quarterly, 38(4), 591–612. JSTOR. https://doi.org/10.2307/2712696
Long, E. (1992). Textual Interpretation as Collective Action. Discourse, 14(3), 104–130.
Muhammad, G. E. (2012). THE LITERACY DEVELOPMENT AND PRACTICES WITHIN AFRICAN AMERICAN LITERARY SOCIETIES. Black History Bulletin, 75(1), 6–13. JSTOR.
Murray, H. (2002). Come, Bright Improvement: The Literary Societies of Nineteenth-century Ontario. University of Toronto Press.
Otto, A. (2009, September 15). The evolution of American book clubs: A timeline. MinnPost. https://www.minnpost.com/books/2009/09/evolution-american-book-clubs-timeline/
Paquot, T. (2015). II. Journaux, salons et cafés. Reperes, Nouvelle édition, 31–46.
Peplow, D., Swann, J., Trimarco, P., & Whiteley, S. (2016). The discourse of reading groups: Integrating cognitive and sociocultural perspectives. Routledge.
Redberg Sedo, D. (2004). Badges of wisdom, spaces for being: A study of contemporary women’s book clubs. Simon Fraser.
Redberg Sedo, D. (2011). Reading Communities from Salons to Cyberspace. Palgrave Macmillan.
Taylor, J. B. (2007). When Adults talk in circles: Book groups and contemporary reading practice. University of Illinois.
ادة, ك. (2012). الندوة اللبنانية أو ثقافة الميثاق الوطني. في زمن الندوة ) .ص ص (181–220 منشورات الندوة اللبنانية.
شرارة-بيضون, ع. (2021). نسوية في منظمة يسارية::... وما تلى ذلك. في بعيون النساء: شؤون اللبنانيات وقضاياهن. ( صص 273–298)) دار الجديد.
طلعت, ع. (2011). نازلى فاضل: أأميرة التنوير... ام عميلة الإحتلال؟ | مجلة راوي. Rawi Magazine, 3. https://rawi-magazine.com/ar/articles/nazlyfadel/
فتوح, ع. (1994). أديبات عربيات: سير ودراسات.
كلاس, ج. (1996). الحركة الفكرية النسوية في عصر النهضة 1849-1928. دار الجيل.