فاطِمة الموسوي|الجمعة، ١٨ كانون الثاني/يناير٢٠١٩
يخضع القانون اللبناني لحزمة من التشريعات التي لا تزال تتعارض مع إلتزامات لبنان تجاه قضايا حقوق الإنسان. ولعلّ أبرز المتضرّرين من هذه التشريعات هنّ النساء كمكوّن إجتماعي، تنظر إليه قوانين كثيرة بعين التحيّز، والإقصاء والتمييز. تصف الحركة النسائية هذا المنظور القانوني على أنه متعارض مع الحقوق الأساسية التي نصّ عليها الدستور وأنه ينظر لفئات كثيرة، أبرزها النساء، كمواطنات من الدرجة الثانية بصفة لا يعوّل فيها على تأسيس مفهوم كلّي للمواطنة. من أبرز القضايا التي تعتبر من تبعات اللامساواة المكرّسة في التشريع اللبناني هي قضية حقّ المرأة اللبنانية بمنح جنسيتها لزوجها وأولادها في حال زواجها من رجل غير لبناني. علماً بأن هذا التشريع الذي يأتي في سياق لائحة طويلة من التشريعات التي لا تحمي النساء في مواضع العنف الأسري والعام، والإرث، والحضانة، والطلاق، والضمان الاجتماعي، والعمل، إلا أن لهذا التشريع مساس مباشر بعلاقة النساء كمواطنات مع بلدهنّ وما يترتب على ذلك من تأثير على حصولهن على حقوق أخرى لا تخلو نفسها من التمييز. يُبنى التعريف القانوني للجنسية من منظور القانون الدولي على أنه "رابطة قانونية بين الفرد والدولة، عن طريقها يصبح الفرد مواطناً يتمتع بحقوق المواطنة داخل الدولة التي يحمل جنسيتها" وبالتالي فإن ما يمكن أن يؤمنه هذا الحقّ، يلغيه غيابه.
الحاجة إلى تغيير قانون الجنسية الحالي: تمييز واضح وتحفظ على الالتزامات الدولية
يمنح قانون الجنسية اللبناني الصادر عام 1925 الحقّ للرجال اللبنانيين المتزوجين من غير لبنانيات بإعطاء الجنسية اللبنانية لزوجاتهم بعد مرور سنة على تسجيل الزواج. كما أن لكلّ طفل وُلد لأب لبناني أو على الأراضي اللبنانية من غير تابعيّة لأي جنسية أخرى، أو من والدين مجهولين أو والدين مجهولي الجنسية الحقّ بالحصول على الجنسية اللبنانية. بالمعنى نفسه، يحجب هذا القانون حقّ إعطاء الجنسية لأطفال النساء اللبنانيات المتزوجات من غير لبنانيين ولأزواجهن، مع إمكانية منح الجنسية لأطفال اللبنانيات المولودين لآباء مجهولين، مما يطرح مفارقة غير منطقية في منح هذا الحقّ وفي الاستجابة للدستور لجهة مساواة المرأة والرجل. وعلى الرغم من أن لبنان قد وقّع على جملة من الاتفاقيات كاتفاقية حقوق الطفل، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة والاتفاقيّة الدوليّة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، فإنه تجاهل حقّ منح الجنسية للأزواج والأطفال الذي تنصّ عليه هذه الاتفاقيات. كما أنه صادق على اتفاقية القضاء على جميع أشكال العنف والتمييز ضد النساء CEDAW إلا أنه تحفظ على البند التاسع المتعلّق بحقّ المرأة منح جنسيتها لزوجها وأولادها، مما يستدعي العمل الحثيث من أجل ملاقاة هذه الالتزامات في سعيّ حقيقي لردم الهوّة القانونيّة بين الرجال والنساء.
تبعات الحرمان من الجنسية
للإجراءات المترتبة على هذا القانون تبعات حياتيّة يوميّة صعبة ترافق المرأة اللبنانية وعائلتها فتبدأ المعاناة ولا تنتهي عند حقّ الإقامة على الأراضي اللبنانية وما يرافق ذلك من إجراءات وتعهّدات وتأمين وثائق بشكل دوري ومُنهك. تستمرّ هذه التأثيرات لتصل إلى الحقّ في الرعاية الصحية والحقّ في الطبابة واللجوء إلى التغطية التي عادة ما تؤمنها الدولة اللبنانية لمواطنيها فيُحرمون منها أيضاً ويتحملون تكاليف العلاج بشكل كامل. كما لها تبعات على تعليم الأولاد والعمل، إذ يُحرم الزوج من العمل ويُحرم الأبناء من ممارسة مهن عديدة فيتّجهون في كثير من الأحيان إلى مغادرة لبنان نهائيًا. ولا ينتهي الأمر هنا إذ تبرز مشاكل حقّ الملكيّة، ونقل العقارات وتوزيع الإرث وما يترافق معها من مشاكل إداريّة وقانونيّة.
التمعّن في ظاهرة التجنيس السياسي
لأسباب سياسية وإقليمية، برزت في العقود الأخيرة عمليات وطروحات عديدة للتجنيس السياسي لعلّ أبرزها مرسوم عام 1994 الذي قضى بمنح الجنسية اللبنانية لآلاف الأشخاص المقيمين على الأراضي اللبنانية دون أن يشمل اللبنانيات المتزوجات من غير لبنانيين. كما وصدر في عام 2018 مرسوم آخر للتجنيس مستبعداً من جديد أسر النساء اللبنانيات على الرغم من أن هذا المرسوم وغيره لا يعتمدون على معايير الولادة على الأرض، أو صلة الدمّ والزواج من أجل منح الحقّ في الجنسية.
الردّ على التهويل الديمغرافي والطائفي
في خضمّ هذا التوجه المستمرّ نحو التجنيس السياسي، يتعالى الصوت لدى السياسيين أنفسهم الذين يؤيدون التجنيس السياسي عن التهويل الديمغرافي تجاه منح اللبنانيات الحقّ في إعطاء الجنسية، وربط المسألة دوماً بالوجود الفلسطيني في لبنان وأزمة النزوح السوري، معتبرين أن من شأن هذا القانون إذا ما تمّ وضعه أن يشكّل "غلبة طائفية" في البلد مما قد يزيد المشاحنات في ظل الانقسام الطائفي. خرجت دراسات عديدة قامت بها منظمات مجتمع مدني لتُبرز أن النسبة الأكبر من الأزواج غير اللبنانيين هي من التابعية المصريّة (23.5%)، والأردنيّة (17.6%)، والعراقيّة (9.9%)، والفرنسية (8.3%) بينما نسبة الأزواج السوريين والفلسطنيين هي أقل بكثير مما يتمّ تداوله. وبالرغم من ذلك، فإن بعض الخطابات السياسية التي خرجت مؤخرًا لطرح حلولٍ كمنح هذا الحقّ للنساء اللبنانيات "مع استثناء دول الجوار" يشوبها المزيد من التمييز والتعسّف.
التحرّكات المطلبيّة والمبادرات القانونية
نشطت العديد من التحركات المدنية والقانونية من أجل استرجاع الحقّ بالجنسية للنساء اللبنانيات. من أبرز التحرّكات التي نشطت في هذا المجال، تأتي "حملة جنسيتي حقّ لي ولأسرتي" المنبثقة عن مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي. هذه الحملة التي بدأت في لبنان عام 2000 وكانت سبّاقة عربيًا في المطالبة بحقّ النساء في منح الجنسية، توسّعت إلى الكثير من الدول العربية التي تمارس التمييز القانوني نفسه حيال النساء وقد نجحت في تعديل القوانين في معظم هذه الدول، بينما لا يزال لبنان السبّاق في هذا التحرّك محروماً من هذا الحقّ. اعتمدت هذه الحملة على حشد التأييد لحقّ النساء بالجنسية وقد نجحت في جعل القضية معروفة وواسعة على نطاق الرأي العام اللبناني ومؤخراً في الدفع بمشروع قانون متكامل إلى مجلس النواب للمناقشة. تحركات وحملات مناصرة أخرى انطلقت أيضاً في محاولة للدفع بهذه القضية إلى الواجهة. يرصد الناشطون في المجتمع المدني اللبناني أثناء متابعة تطور الخطاب السياسي تجاه قضية الجنسية أن هذه المسألة التي كانت سابقًا من المحظورات في النقاش العام، باتت اليوم موضع نقاش لا يمكن تجاهله، ممّا يؤكد أن العمل الحقوقي المطلبي يسير قدمًا باتجاه إقرار القانون وإن أخّرته الحسابات السياسية.
ماهي أطر المضي قدماً نحو إقرار القانون؟
تبرز مسألة الجنسية كقضية تشريعية لا يمكن فصلها عن التجاذب والحسابات السياسية في لبنان، لذلك فالتشريع اللبناني مدعوّ إلى التعاطي مع مسألة الجنسية كحقّ أساسي ودستوري للنساء لا سيّما مع جملة المشاكل التي تواجههن وأسرهن بسبب الحرمان من هذا الحقّ.
في هذا الإطار، نطرح النقاط الهامة التالية من أجل التعامل مع الوضع القائم:
1. على صعيد المؤسسات العامة: ضرورة توجيه توصيات للمرافق الأمنيّة والخدماتيّة والمؤسساتيّة اللبنانيّة كالأمن العام اللبناني، ووزارة الصحة، والتعليم، والعمل، وصندوق الضمان الاجتماعي بأخذ الخطوات اللازمة من أجل تسهيل أمور عائلات النساء اللبنانيات وملاقاة مطالبهم بانتظار إقرار قانون الجنسية الذي هو الضمانة الوحيدة والمرجوّة في هذا الموضوع.
2. على الصعيد السياسي: مع إبعاد التعاطي في موضوع الجنسية عن التجاذبات السياسية ومنطق التوطين والتعامل معه كحقّ دستوري يضمن المساواة التامّة بين النساء والرجال، بالإضافة إلى الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية المصادق عليها.
3. على الصعيد الاجتماعي: أهمية العمل على نشر الوعي حول حقيقة هذه المسألة بمعزل عن الأرقام والتضخيم وربط القضية بمسائل أخرى كالتوطين والنزوح. والإضاءة على ما تتعرّض له النساء وأسرهنّ من مشاكل بسبب هذا القصور القانوني.
4. على صعيد منظّمات المجتمع المدني: تعزيز تضافر الجهود المدنية، والحقوقية، والإعلامية، والسياسية المتاحة والأكاديمية للمطالبة بإقرار هذا القانون لا سيما من خلال دحض الإدّعاءات الديمغرافية التي تبرز الأرقام الحقيقية خلف ملف منح الحقّ بالجنسية.
فاطمة الموسوي، باحثة ومنسقة مشروع "برنامج الفاعلون في المجتمع المدني وصنع السياسات" في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت.
فاطِمة الموسوي، باحثة ومنسقة برنامج "الفاعلون في المجتمع المدني وصنع السياسات" في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت.
ينشر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت أسبوعيًا سلسلة من المقالات حول مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات العامة والمرتبطة بالأبحاث والإنتاج الفكري الذي يصدره المعهد. تهدف هذه المقالات إلى تحليل الوضع القائم والبناء عليه لتقديم اقتراحات عملية للعام ٢٠١٩ قد تُلهم صناع السياسات وأصحاب القرار والمهتمين بإيجاد حلول للأزمات القائمة وسبل للتطوّر والتقدّم في مجالات مختلفة
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.