فاطمة الموسوي وألكسي توما | الجمعة، ١٤ حزيران/يونيو ٢٠١٩
"همسُ الناس إذا تجمّع، صار صراخًا" نجيب محفوظ
لا يبدو المشهدان في السودان والجزائر مختلفين عن مشاهد الانتفاضات التي انطلقت في دولٍ أخرى من العالم العربي بين عاميّ ٢٠١٠ و٢٠١٢، لا من ناحية الشكل ولا المضمون. إنّ الحراك الذي بدا آنذاك واعدًا بتغييرٍ على صعيد المنطقة بأكملها لم تكتمل فصوله. فحتّى لو نجح في تحقيق تغييرات على مستوى السلطة السياسيّة والتأقلم الاجتماعي والشكل العامّ للحكم إلّا أنّه خلّف وراءه قدرًا كبيرًا من الفوضى والاقتتال والخيبة في أكثر من دولة عربية.. ويُظهر سير الأحداث الأخيرة في كل من السودان والجزائر أنّ الأمور لا تبشِّر بالخير خاصّةً في ظلّ تدخّل القوّات العسكريّة وفتح باب التعاطي المسلّح العنيف مع المعتصمين في السودان ممّا أوصل عدد القتلى حتّى اليوم إلى ما لا يقلّ عن ٦٠ بحسب لجنة أطبّاء السودان المركزيّة. والسؤال الذي يُطرح هو هل سيكون لصوت الشعوب الكلمة الفصل؟ وهل استفادت التحرّكات الشعبيّة من الدروس التي فرضتها التجارب السابقة؟ قد لا تكون المدّة الزمنيّة التي تمتدّ الأحداث عليها كافية لتقييم هذا الحراك والتمعّن في خصوصيّته ومعالمه ولكن سرعة تدخّل القوات العسكريّة في البلدين لتدارك زخم الإرادة والتحرّك الشعبي جديرة بالانتباه والدراسة.
بدأت جولة العنف عندما استيقظ العالم صباح الثالث من حزيران ٢٠١٩ على أخبار مجزرة ارتكبها العسكر بحقّ المعتصمين السلميّين المتواجدين في الميدان أمام مقرّ القيادة العامّة للجيش السوداني في الخرطوم عبر استخدام كثيف للرصاص الحيّ أودى بحياة ١٣ شخصًا. أتى هذا المشهد كإنذار من الجيش إلى الثوّار السودانيّين الذين يبدو أنّهم لا ينوون العودة إلى بيوتهم في وقتٍ قريب، بعد مضي شهرين تقريبًا على قيام السلطات العسكريّة السودانيّة بالتحفّظ على الرئيس الأسبق عمر البشير. ويبدو أنّ الأمور متّجهة نحو المزيد من التأزّم في السودان بشكلٍ خاصّ، مع تدخّل جماعة الجنجويد وازدياد حالات القتل المروّع في وقتٍ قرّر فيه المنخرطون في الحراك الشعبي إعلان العصيان المدني في معظم المرافق الحيويّة.
أمّا في الجزائر، فلم تشهد ساحة الحراك أي تراجع بالرغم من تنحّي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ولا تزال التظاهرات تملأ الشوارع مُطالبةً برحيلٍ الرئيس بالإنابة عبد القادر بن صالح وباستقالة الحكومة الحاليّة، ما من شأنّه أن يضع نهاية للنظام الحالي الذي يخشى المتظاهرون أن يبقى قائمًا مع تبدّل الوجوه. وقد دخلت المؤسّسة العسكريّة الجزائريّة على الخطّ مع جملة من التحرّكات والاعتقالات بتحذيرٍ ضمنيّ للاحتجاجات التي لم تهدأ حتّى اللّحظة.
يعكس عدم توقّف الحراك الشعبي إثر تنحّي الرئيس الجزائري والتحفّظ على البشير واستمرار الانتفاضات بالرغم من استلام السلطات العسكريّة لزمام الأمور في البلدين تخوّفًا من تكرار المصير الذي آلت إليه الانتفاضة المصريّة التي أسقطت الرئيس المصري السابق حسني مبارك ومن بعده الإخوان حتّى خمدت وسلّمت زمام الأمور إلى شخصيّات كانت تشكّل جزءًا من الفريق الحاكم ما قبل الثورة. وإذا ما قرأنا المشهد بتمعّن، ندرك أنّ انطلاق الانتفاضتين السودانيّة والجزائريّة يدلّ على بداية تحرّر الشعوب العربيّة من فزّاعة الاقتتال الطائفي والقبلي الدموي التي تشهرها الأنظمة العربية في وجه أي محاولة للتغيير.
فالتوجّس العميق من الانزلاق في صدامات أهليّة شكَّل شبحًا طوّق الغليان الشعبي في المنطقة طيلة السنوات السبع الماضية. ولكن يبدو أن جليد الخوف بدأ بالذوبان إذ لم ينل من الإرادة الشعبيّة في البلدين والانتفاضتان اللّتان اندلعتا مؤخّرًا خيرُ دليلٍ على ذلك.
ومن الملفت الحضور القويّ للطبقة العاملة في الميدان المنتفض والذي يعتبر عاملًا حاسمًا ومؤسّسًا، وعنصرًا تنظيميًا واضحًا في كلا الانتفاضتين، ويتشابه هذا الدور إلى حدّ كبير مع الانتفاضتين المصريّة والتونسيّة حيث لعبت الإضرابات العامّة دورًا مفصليًا في تسريع الأحداث وتنحّي كل من الرئيس التونسي بن علي والرئيس مبارك. وكان تجمّع المهنيّين السودانيّين الذي تأسّس عام ٢٠١٦ ونشأ ليواجه الاتّحادات العمّالية التي سبق وأنشأها نظام عمر البشير لاحتواء الحركات العمّالية (والذي يضمّ أطبّاء ومهندسين ومحامين وأساتذة وصحافيّين وعمّال) أوّل من دعا إلى التظاهر في الخرطوم ضدّ حكم البشير، وأوّل من أقام حملة موسّعة عام ٢٠١٨ من أجل رفع الحدّ الأدنى للأجور في ظلّ تدهور الوضع المعيشي. وقام التجمّع بتوقيع عريضة عام ٢٠١٨ سُمِّيت بعريضة الحريّة والتغيير ونادت برحيل البشير ونظامه (ضمّ هذا التحرّك أكثر من ٢٠ هيئة من المجتمع المدني السوداني). وبعد قيام القوّات المسلحة السودانيّة بالتحفّظ على البشير، دعا التجمّع للاعتصام والتظاهر السلمي من أجل إنهاء سيطرة المجلس العسكري الانتقالي على مقاليد الحكم بالرغم ممّا تلا ذلك من دمويّة شديدة.
أمّا على الضفّة الجزائريّة، فبعد أن رأى النظام أنّ الطبقة العاملة الجزائرية قد بدأت تنخرط في الانتفاضة، بدأ بتقديم سلسلة من التنازلات. فقد أعلن الأساتذة، والطلاب، والقضاة، وموظفي القطاع العام، والمقاولون وعمال قطاعي النفط والغاز (الذي يشكّل ٣٥٪ من الناتج المحلّي الإجمالي في الجزائر) الإضراب العام، ونزلوا إلى الشارع بالرغم من الضغوط التي مورست عليهم ممّا كرّس واقعًا جديدًا في نظرة نظام بوتفليقة للحراك وآفاقه.
ولا بد من الإشارة إلى أنّ انخراط النساء في الحراكين كان لافتًا للانتباه ومؤثّرًا على أكثر من صعيد. ولا نقصد مطلقًا أيَّ إنكار للدور الذي لعبته النساء في انتفاضات دول عربيّة أخرى، إذ عزّزت النساء دومًا جبهة التحرّكات الشعبيّة من سوريا إلى مصر وتونس واليمن وليبيا، ولكن تشير التقديرات إلى أنّ المشاركة النسائيّة في تظاهرات الخرطوم والأقاليم السودانيّة بلغت ثلثي التحرّكات في كثير من الأحيان.
ما يحصل اليوم يقود إلى تساؤلات عديدة حول التدخّلات الخارجيّة في مجريات ما بعد سقوط البشير وبوتفليقة ومحاولات احتواء الحراك المدني إمّا لِصالح الجنرالات والعسكر أو لجهة التنظيمات الإسلاميّة. وقد قوبلت هذه التدخّلات بقيام العديد من النشطاء في السودان بالاحتجاج عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر تنظيم وقفات احتجاجية أمام بعض السفارات العربيّة لرفض التدخّل المباشر لبعض الدول العربيّة في مسار الحراك السوداني وعمليّة انتقال السلطة. وليس بالإمكان، اليوم، النظر إلى أي مشهد عربي بمعزل عن الخلاف السعودي القطري والتوتّر القائم مع تركيا وإيران، فالسعودية والإمارات اللّتان قرّرتا دعم جنرالات الجيش في كل من السودان والجزائر توجّهان إصبع الاتهام لكل من قطر وتركيا وإيران حول دعم الإسلاميّين. كما تشير تقارير إعلاميّة إلى تدفّق التمويل للعسكر في كلا البلدين مما يشير إلى تحوّل ساحة الانتفاضتين إلى ملعب جديد لتصفية الحسابات الإقليميّة التي بدأت في مصر ولن تنتهي في سوريا وليبيا.
هل تنتقل شرارة التحركات إلى مصر والعمق شمال الإفريقي من جديد؟
الكثير من الافتراضات حول إمكانيّة انتقال أثر الحراك السوداني إلى مصر في ظلّ اختناق غير مسبوق يعانيه المشهد المصري مع تزايد القبضة الحديديّة على مفاصل الدولة والمجتمع، والتشديد على الهيئات المدنيّة والحقوقيّة لا سيّما في ضوء نتائج الاستفتاء الأخير حول تمديد ولاية الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. ويشير الباحث اللّبناني جيلبير أشقر في معرض قراءته للمشهد الحالي إلى تصاعد الغليان في المجتمعات العربيّة إذ لا تخلو أي ساحة عربيّة من إمكانيّة الانفجار، وفي أي لحظة، خصوصًا في بلاد شهدت تحرّكات في السابق مثل مصر وتونس أو أخرى "تداركت الربيع" كالمغرب والأردن.
وبينما يبدو المشهد المصري مثقلًا بتبعات السيطرة العسكريّة والتراجع الاقتصادي الحادّ، نطرح السؤال الآخر المتعلّق بتأثير الحراك الجزائري على الدول الأفريقيّة المجاورة لا سيّما أنّ المغرب بنظامه الملكي وتركيبته القبليّة في الجنوب قد تدارك الانتفاضات العربية عام ٢٠١٢ بفضل حزمة إصلاحات دستوريّة طالت سياسات اجتماعيّة كبرى، لكن سرعان ما تراخت أمام جولات الفساد الداخلي المستمرّة والتي تدفع بتظاهرات متفرّقة من حين إلى آخر.
هل من أفق؟
السؤال الذي بات يؤرق الجميع اليوم هو "هل التغيير ممكن؟" مع تصاعد الخشية من الدور المحوري والمتزايد للجيش في البلدين ممّا سيعقّد عمليّة انتقال السلطة لا سيّما أن تجربة الجارين المصري واللّيبي لا تبدو مطمئنة. لكن تبقى الإجابة على هذا السؤال رهنًا بما ستقوم به السلطات العسكريّة، وهي بدأت تتّخذ منحًى دمويًا في السودان ولن تكون أكثر رأفةً على الضفّة الجزائريّة. القيّمون على الحراك في البلدين مطالبون أكثر من أي وقتٍ مضى بأن ينظّموا صفوفهم ليس فقط خلال التحرّكات وإنّما أيضًا في أي مرحلة انتقاليّة وشيكة لا سيّما في الجزائر حيث لا يزال الوضع بعيدًا عن الدمويّة والعنف المباشر. أمّا في السودان، ولأن التدخّل العسكري بلغ ذروة دمويّة غير مسبوقة، فالمشهد مشرّع على كافّة الاحتمالات. وتبقى الإشارة إلى أنّه من المهم ألّا ننسى أنّ الشعبين السوداني والجزائري لديهما تاريخ طويل من النضال ضدّ الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي ولهما همّة شعبيّة ملحوظة، لا تبدو حتى اليوم خافتة، ممّا يترك الفرص أمام مآلات الحراكين والإمكانيّة الجديّة للتغيير رهنًا بعواملَ قد تغيّر الصورة القاتمة.
فاطمة الموسوي وألكسي توما، برنامج "الفاعلون في المجتمع المدني وصنع السياسات" في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت.
ينشر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت أسبوعيًا سلسلة من المقالات حول مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات العامة والمرتبطة بالأبحاث والإنتاج الفكري الذي يصدره المعهد. تهدف هذه المقالات إلى تحليل الوضع القائم والبناء عليه لتقديم اقتراحات عملية للعام ٢٠١٩ قد تُلهم صناع السياسات وأصحاب القرار والمهتمين بإيجاد حلول للأزمات القائمة وسبل للتطوّر والتقدّم في مجالات مختلفة
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.