ناصر ياسين | الجمعة، ٢ آب/أغسطس ٢٠١٩
"لقد عاد الذئب" هو العنوان الذي اختارته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركيّة لخبر نشرته في ٢٣ نيسان/أبريل، حيث جاء في تفاصيله أن نحو مئة ذئب تسلَّلوا من بولندا عبر الحدود نحو ألمانيا، واجتاحت هذه القطعان أراضي بلدة فورستغين الهادئة في شرق البلاد لتصطاد فريسَتها من الخراف. هذا الخبر البسيط الذي في العادة قد لا يهمّ إلّا بعض المختصّين في علم الحيوان أو أصحاب مزارع الماشية، تحوّل إلى قضيّة رأي عام وتمّت مناقشته في البرلمان الألماني وسط انقسام حادّ حول أفضل طريقة للتعامل مع هذه "الوحوش". وتأزّم الوضع أكثر بعد تشبيه "اجتياح" الذئاب بتدفّق اللّاجئين والمهاجرين. فقد استخدم سياسيو اليمين المتطرّف مثال الذئب الذي يهدّد هُدوء واستقرار المناطق الريفيّة وقارنوه بالمهاجرين واللّاجئين الذين أتوا لِتَهديد السكينة وامتصاص دماء الاقتصاد والهُجوم على الأبرياء.
هذا ما بلغه الانقسام القائم حول قضيّة اللّاجئين في يومنا هذا، حيث يُصوّر اللّاجئون على أنّهم كائنات طفيليّة تستنزف المُجتمعات. وللأسف، تحوّل منح اللّجوء ومساعدة اللّاجئين من عمل نبيل ومشرِّف إلى تصرّف ساذج ينمّ عن قلّة مسؤوليّة ويُصوّر كأنّه عمل غير وطني. ويُستخدم هذا الخطاب السامّ لإحداث انقسام في المجتمع بين "وطنيين يعنيهم أمر بلدهم في وجه خطر اللّاجئين" و"مواطنين كارهين للذات مؤيّدين للّاجئين والمهاجرين".
الرِواية نفسها تتكرّر غربًا وشرقًا، حيث يُستخدم الخطاب نفسه المعادي للّاجئين والمهاجرين، وهو في أغلب الأحيان قائم على مغالطات وأكاذيب، إمّا بهدف المبالغة في حجم تأثير استضافة اللّاجئين على المجتمعات والاقتصادات المحليّة أو لتعميم هذه الأفكار. فمِن ازدياد معدّلات الجريمة إلى الركود الاقتصادي، يُحمَّل اللّاجئون والمُهاجرون زَورًا مسؤوليّة كافّة الآفات الاجتماعيّة وفشل الحكومات. إلّا أنّ الأرقام والدراسات تعكس واقعًا مختلفًا تمامًا.
فالفكرة الشائِعة بأنّ اللّاجئين يُسهمون في ارتفاع معدَّلات الجريمة هي فكرة خاطئة، على الرغم من استخدامها الواسع من قبل كثير من السياسيين الشعبويين. في ألمانيا على سبيل المثال، انخفضت معدّلات الجريمة بنسبة ١٠٪ في عام ٢٠١٧ على الرغم من تدفّق اللّاجئين. وفي إيطاليا، أظهرت الأرقام التي تمّ جمعها بين عاميّ ٢٠٠٧ و٢٠١٦ تراجعًا في معدّلات الجريمة في كافّة المناطق الإيطاليّة، على الرغم من المغالطات التي روّج لها السياسيّون المحلّيون بأنّ المهاجرين يتسبّبون في زيادة الجريمة. أمّا على الصعيد الاقتصادي، تدحض الأبحاث القول بأنّ اللّاجئين يشكّلون عبئًا على اقتصاد الدول المضيفة، حيث تبيّن أنّ اللّاجئين يجلبون معهم الكثير من المَوارد، ولديهم القدرة على المساهمة في النمو الاقتصادي في الدول التي تستضيفهم. وبيّنت دراسة نشرت في دوريّة Science Advances في حزيران/يونيو عام ٢٠١٨ وتضمّنت تحليلًا لثلاثين سنة من البيانات في ١٥ دولة أوروبيّة، أنّ اقتصادات الدول التي تستضيف لاجئين ومهاجرين ازدادت قوّة، فيما تراجعت معدَّلات البطالة.
مع ذلك، لا تزال المشاعر المناهضة للّاجئين راسخة، وقد تمّت ترجمتها في الكثير من الحالات إلى تحرّكات في الشارع، مثل التظاهرات المُناهضة للمؤسّسات التي يديرها لاجئون أو فرض قيود على تحرّكاتهم أو التضييق على المنظّمات غير الحكوميّة التي تدعمهم والضغط على أفراد المجتمع المدني الذين يعبّرون عن آراء مؤيّدة للّاجئين، إلى حدّ أنّ محاولة إنقاذ اللّاجئين من الغرق في مياه البحر المتوسّط باتت اليوم جريمة يعاقب عليها القانون في احدى الدول الاوروبية.
أيُّ دور يمكن أن يلعبه الأكاديميّون في ظلِّ هذا الانقسام؟
من موقعنا كأكاديميّين، واجبنا الاستمرار في القيام بما نجيده، أي أن نقدّم أدلّة مثبتة وواقعيّة حول تأثير اللّاجئين على مجتمعاتهم المضيفة، بالإضافة إلى إجراء المزيد من البحوث للإضاءة على مساهمات اللّاجئين. كما نحن مدعوون لتثقيف الطلّاب وإشراك الجمهور الأوسع في مواجهة الخرافات والمغالطات المتعلّقة باللّاجئين.
علينا أن نلتقي معًا ونبني شبكات واسعة ومترابطة على كافّة المستويات المحلّية والإقليميّة والدوليّة. بالإضافة إلى التعاون عن كثب مع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني (الجمعيّات أو القواعد الشعبيّة التي ليس لديها تمثيل رسمي) والجمعيّات الدينيّة ووسائل الإعلام (بالأخصّ وسائل الإعلام التقدميّة) والقطاع الخاصّ والمنظّمات الدوليّة. وفي هذا السياق، نذكر تحالف الجامعات الرائدة حول موضوع الهجرة (ALUM)، وهي شبكة من المؤسّسات الأكاديميّة التي يرتكز عملها على أبحاث السياسات في مختلف المجالات وتضمّ حاليًا ٢٠ جامعة في أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأميركا وتسعى إلى نشر المعرفة الأكاديميّة في هذه المناطق.
فقد التقى نحو ١٦٥ عضوًا من التحالف في تشرين الثاني/نوفمبر عام ٢٠١٧ في الجامعة الأميركيّة في بيروت وتناولوا المسائل التي سبق وذكرناها حول دور البحث الأكاديمي في أزمة اللّاجئين. وانطلاقًا من القناعة الراسخة بضرورة انخراط الأكاديميين وممارستهم دورًا مؤثرًا، تعاوَنوا معًا من أجل إطلاق "إعلان بيروت حول الهجرة" الذي يذكر بوضوح دور الأكاديميين في أزمة اللّاجئين الحاليّة والتزامهم بـ:
١. توفير الأدلّة بشكلٍ أسهل وأسرع لوسائل الإعلام والجمهور بشكلٍ عامّ؛ ٢. تعميم الأدلّة والمُمارسات الفضلى حول حماية المهاجرين ودمجهم وعودتهم في إطار مسارات قانونيّة مطوّرة؛ ٣. دعم حصول المهاجرين واللّاجئين على التعليم العالي؛ ٤. تقييم وتعزيز اتّباع الممارسات السليمة في ما خصّ حصول المهاجرين واللّاجئين على خدمات الصحّة الجسديّة والنفسيّة؛ ٥. العمل مع العاملين في مجال الاستجابة للأزمة من أجل تقييم جودة المساعدات الإنسانيّة وقدرة الأشخاص الذين ينتقلون من مكانٍ إلى آخر على الحصول عليها اليوم؛ ٦. مراقبة التزام الحكومات وغيرها من الجهات الفاعلة في المشاركة بتحمّل العبء العالمي من أجل ضمان المحاسبة.
في زمن يدّعي البعض فيه أنّه "ما بعد الحقيقة"، نحن مُلزمون بعرض الوقائع والأدلّة وبالنضال معًا من أجل الحفاظ على قيمنا العالميّة المُشتركة. ففي حال تهدّدت قيمنا المُشتركة في ما خصَّ حماية اللّاجئين، فإنّ الانتهاكات التي ستَلي ذلك لا تعدّ ولا تحصى. وتَهويل الناس من "ذئب خيالي" سيجعلهم يصدّقون وجوده وسيحرّض بعضهم على البعض سَعيًا لإنقاذ أنفسهم.
مقدمة كتاب "١٠١ من الحقائق والأرقام حول أزمة اللجوء السوري - الجزء الثاني"
ناصر ياسين، مدير الأبحاث في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت وأستاذ السياسات العامة والتخطيط في كلية العلوم الصحية في الجامعة، ومنسق مبادرة الجامعة الأميركية من أجل اللاجئين
ينشر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت أسبوعيًا سلسلة من المقالات حول مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات العامة والمرتبطة بالأبحاث والإنتاج الفكري الذي يصدره المعهد. تهدف هذه المقالات إلى تحليل الوضع القائم والبناء عليه لتقديم اقتراحات عملية للعام ٢٠١٩ قد تُلهم صناع السياسات وأصحاب القرار والمهتمين بإيجاد حلول للأزمات القائمة وسبل للتطوّر والتقدّم في مجالات مختلفة
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت