جمال الصغير | الجمعة، ٦ أيلول/سبتمبر ٢٠١٩
يمُرّ لبنان بمرحلة حرجة على المستوى الاقتصادي ممّا استدعى السُلطات اللّبنانية إلى الإعلان عن حالة طوارئ والدعوة لحوار وطني لإنقاذ البلاد من حافة الهاوية.
تعود أسباب هذه الأزمة إلى العَجز الكبير في الماليّة العامّة التي أَوصلت الدَين العام إلى أكثر من ١٥٠٪ من إجمالي الناتج المحلّي وتجاوز نسبة المدفوعات لتغطية الفوائد على الدَين الـ ٩٪ من إجمالي الناتج المحلي.
إنّ هذه الأزمة ليست وليدة اللّحظة، إذ أنّ لبنان يُعاني مُنذ فترة طويلة من تباطؤ النشاط الاقتصادي لأسباب عديدة أهمّها انخفاض لا بل انعدام الثقة، وتشديد السياسة النقديّة لاحتواء وتأخير جفاف سيولة القطع الأجنبي، والانكماش الكبير في قطاع العقارات. إلّا أنّ النمو المنخفض للصادرات مع ارتفاع واردات المحروقات، واضطراد تراجع صافي تحويلات العاملين في الخارج إلى لبنان أدّى إلى ارتفاع العجز الجاري إلى مستوى غير مسبوق يزيد عن ٢٥٪ من إجمالي الناتج المحلّي وانخفاض مستوى النمو الذي بلغ بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي ٠،٣٪ في العام الماضي في وقع تجاوز فيه متوسط معدّل التضخّم ٦٪.
وقد ساهمت كلفة إقرار سلسلة الرواتب التي طُبّقت في أواخر عام ٢٠١٧ بالإضافة إلى كلفة التعيينات العشوائيّة الجديدة في الإدارة العامّة بتفاقم هذا الوضع وأدّى إلى ارتفاع عجز الموازنة الذي بلغ١١٪ من إجمالي الناتج المحلّي في عام ٢٠١٨،مقابل ٨،٦٪ في عام ٢٠١٧. وانخفض الرصيد الأوّلي إلى ١،٤٪ من إجمالي الناتج المحلّي. والأخطر من ذلك أنّ الإيرادات الضريبيّة كانت أقلّ من المتوقّع.
وبالرغم من مهارة وقدرة مصرف لبنان في الحفاظ على الاستقرار النقدي لعدّة سنوات في ظلّ الظروف العصيبة، إلّا أنّ تكاثر التحدّيات التي يواجهها أثّر على القيام بهذه المهمّة، ممّا جعل كلفة بعض الهندسات الماليّة غير متناسبة مع وقعها الإيجابي على الوضع النقدي. وتبيّن ذلك من خلال خفض مؤسّسات التصنيف الائتماني للبنان مرّة أخرى هذا العام، فقد أدّى سوء إدارة الماليّة العامّة، ووقف تدفّق الودائع، وانخفاض عائدات السندات السياديّة إلى قيام مؤسّسة فيتش بتحويل النظرة المستقبليّة للبلاد إلى سلبيّة عند مستوى التصنيف -CCC.
في ظلّ هذا الواقع الخطير من الضروري أن يبدأ لبنان عمليّة ضبط مالي كبيرة وإصلاحات هيكليّة لاحتواء الدَين العامّ والعمل على زيادة النمو. فالضبط المالي والإصلاح الهيكلي هما السبيل الوحيد للخروج من الأزمة، أمّا الاستمرار بالسلوك الاقتصادي الحالي وإبقاء الأمور كما هي فبات مستحيلًا ولم يعد خيارًا.
إنّ الأزمة التي يمرّ بها لبنان تُشكّل فرصة لتصحيح الخلل إذا تمّ تنفيذ إصلاحات أساسيّة تعيد التوازن للاقتصاد اللّبناني وتسمح باجتياز مرحلة العجز المزدوج أي زيادة الدَين العامّ من جهة، وانخفاض النمو من جهة أخرى.
سلسلة من الاقتراحات للخروج من الأزمة الاقتصاديّة:
هناك فرصة أمام الحكومة حاليًا لتنفيذ الإصلاحات وتغيير مجريات الأمور إلى الأفضل وذلك عبر تقوية الاقتصاد اللّبناني من خلال عمليّة إنقاذ اقتصادي ترتكز على النقاط العشرة المذكورة أدناه. الإجراءات باتت شبه معروفة، لكن لا نستطيع أن نطلب من الناس التضحية فيما الفساد مستمرّ. فإنّ المدخل الأساسي لهذه الإصلاحات لا بد أن يكون عبر التعجيل باتّخاذ الخطوات الملموسة للحدّ من الفساد وتعزيز الحوكمة.
إنّ إجراء هذه الإصلاحات التي ستؤدّي إلى تعزيز الثقة، ومنح الاقتصاد فرصة لالتقاط الأنفاس، وتشجيع الجهات المانحة على صرف القروض الميسّرة التي تعهّدت بتقديمها في مؤتمر "سيدر" لتمويل خطّة الاستثمار الرأسمالي. إلّا أنّه لا بد من الإشارة أنّ عمليّة الخروج من الأزمة الاقتصاديّة سيكون لها تأثيرات سلبيّة على المجتمع اللّبناني ككُلّ والطبقة الفقيرة والمتوسّطة على وَجه الخُصوص، لذلك لا بدّ من أن تترافق هذه الإصلاحات مع جهود تبذلها الدولة لتطوير وتحسين أنظمة شبكات الأمان الاجتماعيّة والتغطية الفعّالة، على أن تؤمّن الدولة ومؤسّساتها هذه التغطية. المجتمع الدولي والدول المانحة على استعداد لمُساعدة لبنان في تحقيق هذه الأهداف. وأكبر ضرر لحق بمصداقيّة لبنان هو إطلاق الوعود وعدم تنفيذها، فهل يمكن للشعب اللّبناني أن يستعيد أهمّ ضمانة يفتقدها اللّبناني.. الأمل؟
جمال الصغير، خبير في الاقتصاد، مدير سابق في البنك الدولي، باحث في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، أستاذ في الأعمال التدريبية في معهد دراسة التنمية الدولية في جامعة ماكجيل في مونتريال، عضو غير مقيم في معهد بايني في جامعة كولورادو للمناجم.
ينشر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت أسبوعيًا سلسلة من المقالات حول مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات العامة والمرتبطة بالأبحاث والإنتاج الفكري الذي يصدره المعهد. تهدف هذه المقالات إلى تحليل الوضع القائم والبناء عليه لتقديم اقتراحات عملية للعام ٢٠١٩ قد تُلهم صناع السياسات وأصحاب القرار والمهتمين بإيجاد حلول للأزمات القائمة وسبل للتطوّر والتقدّم في مجالات مختلفة
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.