فاطمة الموسوي | الجمعة، ١١ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٩
إلى روح نادين جوني وأرواح أمهات لا زلن على قيد الحياة
ماتت نادين جوني، الناشطة اللبنانية التي قضت السنوات الماضية من حياتها مُنخرطة في معركة مطوّلة مع المحكمة الشرعيّة الجعفريّة دفاعًا عن حقِّها وحقّ نساء أخريات في الحصول على شروط حضانة أفضل. رحلت نادين وخرج الموضوع إلى النقاش العام من جديد بزخمٍ غاضبٍ هذه المرّة. وقد لا تكون قضيّة الحضانة أبرز هُموم المواطن اللبناني حاليًا في ظلّ ما يُتداول من "انهيار وشيك لليرة اللبنانية أو العملة الوطنية" وفي معرض التأزم الاقتصادي الحادّ ناهيك عن أزمات اجتماعية وسياسية تعصف بالمشهد العام، لكنها حتمًا الكابوس اليومي الثقيل الرازح فوق أكتاف الكثير من الأمّهات اللبنانيات اللواتي حُرمن حضانة أبنائهن بفعل قوانين الأحوال الشخصيّة.
والحضانة بإطارها الاجتماعي لَيست قضيّة نضالية كلاسيكية يتّجه إليها انتباه المموّلين والمانحين أو المنابر الإعلاميّة الساعية وراء السبق الصحفي - إلا إذا ترافقت مع معالم "فضيحة" - لكنها حتمًا من القضايا الشائكة التي لا تُنتهك فيها حقوق المرأة كأمّ فحسب بل حقوق الطفل أيضًا. تُطرح، اليوم الكثير من التساؤلات حول الأُسس القانونية والفقهية حيال هذه القضية الإشكالية بالإضافة إلى حيّز الإصلاحات الممكنة في ظل تعدد القوانين التي تُبنى عليها قرارات الحضانة. ولا بدّ، أثناء الحديث عن موضوع الحضانة، من وضع النقاش في قالبيه الحقوقي والمطلبي المتمايزين، إذ لجأت بعض الجمعيات في الحركة النسوية الّلبنانية إلى محاولة الإصلاح داخل المؤسّسة الدينية بموازاة استمرار سعي جمعيات أخرى من أجل إقرار قانون مدني موحد يحدّ من تدخل السلطات الدينية في الشؤون الشخصية للأفراد. وفي الوقت الذي لا يبدو فيه أن المسارين متعارضان، تصبح محاولة الجمعيات النسائية الساعية إلى اختراق المنظومة الدينية الفولاذية لنقض بعض مسلماتها في لبنان موضع نقاش ودراسة.
يختلف سِنّ الحضانة في لبنان من طائفة لأخرى ويتدنّى لمصلحة الأب عند جميع الطوائف. وسنّ الحضانة هو سنتان للذكور و٧ سنوات للإناث عند الطائفة الشيعيّة دون أي محاولة تعديل لرفعه بالرغم من التعديلات التي تمّت في المحاكم السنيّة والدرزية. إذ كان ٧ سنوات للذكور و٩ سنوات للإناث عند الطائفة السنية ولكن استطاعت جُهود المجتمع المدني أن تعدِّله إلى ١٢ عامًا للذكور والإناث عام ٢٠١٤. أما عند الطائفة الدرزيّة، فقد حصل تعديل مُشابه جعل حضانة الأم للذكور حتى سنّ ١٢ عامًا، وللإناث حتى سنّ ١٤ عامًا. بعد أن كان ٧ سنوات للذكور و٩ سنوات للإناث. هذا وتفقد الأمُّ حقها في الحضانة بعد الطلاق في حال تزوجت أو كانت على غير دين الأب.
وبالرغم من هذا التمييز، لم يحدُث أن أُدرِج موضوع الحضانة يومًا على أجندة السياسات في لبنان كبند للتعديل أو النقاش بالرغم من العمل المبكر للحركة المدنية المعترضة على مُجمل صلاحيات وبنود الأحوال الشخصية. ولكن في عام ٢٠٠٦ تمَّ إنشاء "شبكة حقوق الأسرة" بمبادرة من المحامية والناشطة إقبال دوغان ومشاركة مجموعة من الحقوقيّات والناشطات من جميع الطوائف من أجل العمل على إيجاد إصلاحات داخل المحاكم الدينية لعلّ الأحكام تكون أكثر إنصافًا لناحية رفع سنّ الحضانة لصالح الأمهات لا سيما أن قانونًا مدنيًا موحّدًا لا يزال بعيد المنال. كانت أبرز الحملات التي قامت بها "الشبكة" موجّهة نحو دار الفتوى عام ٢٠٠٧، حيث استطاعت الحملة عبر تكثيف النشاط والاجتماعات مع السياسييّن البارزين في الطائفة السنيّة أو تؤثر على قرار دار الفتوى وإجراء تعديل يقضي برفع سن الحضانة إلى ١٢ سنة. ونجحت الحملة نفسها في التأثير على قرارات رجال الدين الدروز. لكنّها لم تتمكن من التأثير على قرارات المحكمة الجعفرية لا سيما مع عدم تجاوب المسؤولين السياسيين من حركة "أمل" و"حزب الله".
إضافةً إلى ذلك، لم تنجح الشبكة في اختراق المؤسّسة الدينيّة الشيعيّة أو التأثير عليها بالرغم من فتح باب الاجتهاد الذي يرتكز على تعديل الفتاوى لتتماشى مع روحيّة العصر. والمحكمة الشرعية الجعفرية في لبنان تخضع للمرجعيّة الدينية الشيعية المتمركزة في النجف في العراق وتحديدًا للمرجع الديني علي السيستاني. علمًا بأن أحكام السيستاني المطبّقة في لبنان غير مُلزمة في القانون العراقي الذي يخضع لقانون مدني واحد. وبالتوازي مع عدم نجاح "الشبكة" في هذا المضمار بدأ حراك "الحملة الوطنية لتعديل سنّ الحضانة عند الطائفة الشيعيّة" أو ما يُتعارف عليه بحملة "حماية المرأة اللبنانية" محاولاً تعديل السنّ القانونية للحضانة. والّلافت أن الحملة التي لم تلقَ تجاوبًا شعبيًا كبيرًا في البداية استطاعت استقطاب عدد كبير من نساء الطائفة الشيعية لاحقًا بفضل اعتماد أسلوب مخاطبة يحاكي المشاكل التي تواجهها النساء على حدّ سواء بغضّ النظر عن مدى انخراطهن في العمق الديني. اليوم وعلى مشارف نهاية عام ٢٠١٩ لا تعديل في سنّ الحضانة عند الطائفة الشيعيّة ولكن تبدّل عميق حصل في النظرة الاجتماعية إلى تعنّت المؤسسة الدينية والتفاف غير مسبوق من قبل البيئة الشعبية حول المطالبين بالإصلاحات لا سيما وأنّ العديد من الحالات التي مورس فيها التمييز ضدّ الأمهات خرجت إلى العلن وجلبت الكثير من التعاطف الشعبي مع الأمهات ضد الأحكام الدينية. وإذا ما أردنا أن نقيس تطور النظرة إلى مسألة الحضانة في معرض انعدام أي تغيير سياساتي يذكر، لا بد من الإشارة إلى العديد من المبادرات والاجتهادات الشخصيّة التي بدأ يقوم بها قضاة شرعيون نتيجة الضغوط المطلبية والتوعوية والإعلامية وهو ما يرافق خطابًا جديدًا عند بعض رجال الدين من خارج المؤسّسة الدينية الشيعيّة الرسميّة الذين بدأوا يركزون في عديد من القضايا على مبدأ "الصحّة النفسيّة والعاطفيّة للطفل كشرط لقرار الحضانة".
قد تكون الأرضيّة المتغيّرة لهذه القضية حافز لتبدّل في السياسات وتطوّر الأحكام الفقهية لا سيّما مع التنبّه المتزايد للجماهير، حتى المتديّنة منها، إلى التدخل المفرط من قبل المؤسسة الدينية في شؤون الأفراد. ولكن إشكاليات أخرى لا مفرّ من ذكرها تبرز في هذا السياق ومنها متعلّق بموقف المجتمع المدني نفسه ونشاطه في هذا النوع من القضايا. فخوف النساء في معظم الأحيان لا ينبع فقط من سنّ الحضانة بل أيضًا من منظومة الأحوال الشخصية التي تجعل الطلاق تمييزيًا مما يضطّر الكثير من الأمهات إلى التخلّي عن الحضانة بمعزل عن السنّ الذي تقرّه الطائفة فتنتج الانتهاكات بشكلٍ أوسع.
أما على صعيد تحرّك المجتمع المدني وبالرغم من الحضور الصلب للجانب الحقوقيّ في الحملات التي تبنّت هذا الموضوع، لا تزال الأساليب المطلبية إلى حدٍّ ما خالية من الإشارة إلى حقوق الطفل ومصلحته الفضلى كشرط حاسم في قرار الحضانة بناءً على أسسها العاطفية والسلوكية والتربوية ممّا يستدعي تنبهًا أكثر للأساليب ووسائل الضغط ولتنظيم الخطاب الداخلي. من ناحية أخرى تبرز قضية التعاون بين هيئات المجتمع المدني من جديد، فالحملتان اللتان عملتا على هذا الموضوع لم تعتمدا على أي تمويل وتطورتا دون أي مساندة لوجيستية أو معنويّة من منظمات نسائية كبرى تتعاطى شؤون المرأة والأحوال الشخصية على وجه التحديد. وليس بالإمكان عزل هذا المشهد عن المأزق العام الذي تمرّ به الحركة النسائية اللبنانية لناحية التنظيم والتشبيك والعمل المنفرد في بعض الأحيان وغياب الجهد الجماعي. ولا بد من الإشارة في سياق الحديث عن الجانب التوعوي الأساسي في هذه القضية لأهمية التنسيق النوعي بين المجتمع المدني والإعلام في لبنان في سبيل توظيف التغطية الإعلامية لصالح ضحايا الانتهاكات الحاصلة من جانب المؤسّسة الدينية بعيدًا عن قولبة مسألة الحضانة كخلاف شخصي بين الأب والأم٬ مما قد يوقع الكثير من الحالات المحقّة في بؤرة التجاذب بعيدًا عن المعالجة المنطقية والعادلة.
* تستند هذه المقالة إلى حالة دراسية أجرتها الكاتبة ضمن مشروع بحثي يدرس محاولات تأثير المجتمع المدني على صنع السياسات في العالم العربي شكر خاص للفنان مجد كرديه
فاطمة الموسوي، باحثة في القضايا الجندرية وحركة المجتمع المدني في لبنان والعالم العربي في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت.
ينشر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت أسبوعيًا سلسلة من المقالات حول مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات العامة والمرتبطة بالأبحاث والإنتاج الفكري الذي يصدره المعهد. تهدف هذه المقالات إلى تحليل الوضع القائم والبناء عليه لتقديم اقتراحات عملية للعام ٢٠١٩ قد تُلهم صناع السياسات وأصحاب القرار والمهتمين بإيجاد حلول للأزمات القائمة وسبل للتطوّر والتقدّم في مجالات مختلفة
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.