علي أحمد | ٤ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٩
يكفي الاستماع إلى هتافات المتظاهرين في الشوارع والساحات تنديدًا بالسلطة السياسيّة، لتكوين تصوّر واضح عن أن التدهور المنهجي الحاصل في مؤسّسات الدولة وخدماتها العامّة، ساهم، إلى حدّ كبير، بتأجيج موجة الغضب العارِمة في كلّ أنحاء البلاد.
تأمين الطاقة الكهربائيّة هو خدمة عامّة توفّرها الحُكومات عمومًا، لكن في لبنان، أصبحت مشاكل هذا القطاع بمثابة تذكير متواصل بعجز الدولة عن توفير أحد أهمّ الخدمات الأساسيّة للمواطن والاقتصاد على حدّ سواء، وانعكاس واضح لتفاقم مستويات انعدام المساواة نتيجة تحميل المناطق الأقل نموًّا والأكثر فقرًا عبء ساعات أكثر من التقنين بالمقارنة مع المناطق الأكثر نموًّا والأقل فقرًا، في تناقض فاضح مع معايير التنمية والإنماء المتوازنين.
وصل نموذج الاقتصاد السياسي الذي رُسِي بعد انتهاء الحرب اللّبنانية إلى طريق مسدود، ويترافق ذلك مع سوء إدارة وَصَمَت عمل الحكومات المتعاقبة منذ العام ١٩٩٢، وأنتجت قطاعات ومؤسّسات مُختلّة وغير فعّالة، من ضمنها قطاع الطاقة الذي يعاني من بنية تحتيّة مُتهالكة ومؤسّسات ضعيفة وتحكمه سياسات لا تتماشى مع التطوّرات الحاصلة في العالم. ما ساهم بتعميق الأزمة الاقتصاديّة في البلاد، وإضعاف العقد الاجتماعي الهشّ بالأساس، والذي يشهد راهنًا تحدّيات كبيرة.
على مرّ السنين، اتّسم أداء الحكومات المُتعاقبة في قطاع الطاقة بالخصائص التالية التي ساهمت بوصولنا إلى هذه المرحلة الحرجة:
(١) اقتصاد سياسي مُصمّم لإثراء القلّة وإعاقة تنمية القطاع
لا يوجد قطاع أكثر من قطاع الطاقة، ربّما، قادر على تظهير العلاقة السامّة بين تكتّل رجال الأعمال والنخب السياسيّة التي توفّر الحماية لمصالح خاصّة، مع ما ينتجه ذلك من تكاليف اقتصاديّة واجتماعيّة مُرتفعة بسبب فشل توفير الخدمات العامّة؛ بدءًا من قلّة تحتكر استيراد المشتّقات النفطيّة التي تقدّر سوقها بمعدّل ٤.٧ مليارات دولار خلال العقد الأخير، ومن ضمنها المازوت المُستخدم في تشغيل المولّدات الخاصّة ويصل حجم سوقه إلى ٢ مليار دولار سنويًا، وصولًا إلى الوكالات الحصريّة لاستيراد السيّارات، التي تتعارض مصالح أصحابها مع تطوير استخدامات الطاقة وإنشاء نظام نقل حديث وفعّال. باختصار شديد، لقد قوّض الاقتصاد السياسي القائم منذ أكثر من عقدين أي فرصة مُمكنة لنقل قطاع الطاقة إلى مستوىً أكثر تطوّرًا.
(٢) تسييس قضايا الطاقة
غالبًا ما أدّت السجالات العقيمة بين الأحزاب السياسيّة المشاركة في الحكومة إلى تجميد أو تأجيل الخطط والمشاريع المُلحّة. واستخدم الكثير من الحجج لتبرير غياب السياسات العمليّة في قطاع الطاقة، بما فيها الجدل القائم حول إستقدام بواخر الطاقة أو تحميل اللّاجئين مسؤوليّة النقص في التيّار الكهربائي. في كثير من الأحيان، بدا أن عملية اتخاذ أي قرار في هذا القطاع، كانت جزءًا من معركة شخصيّة قادها كلّ حزب داخل الحكومة. في حين، كان الجمهور يفقد الأمل تدريجيًا من إمكانيّة حصول أي تغيير إيجابي. في مقال سابق، دعوت إلى إجراء حوار وطني تنبثق عنه خطّة وطنية لإنقاذ قطاع الطاقة، بحيث يمكن لاقتراح مُماثل، في حال نجاحه، أن يحصّن من يدير سياسات الطاقة في البلاد بالتفويض المطلوب ليعمل بسرعةٍ أكبر وبأقلّ قدر من العراقيل السياسيّة.
(٣) غياب المُحاسبة
ينطوي النظام السياسي اللّبناني على عوامل وضعيّة، أبرزها المحاصصة السياسيّة التي تحّل دون المُحاسبة. فإذا سألنا أي طرف في الحكومة المستقيلة عن إخفاقات الحكومات المتتالية في حلّ القضايا الشائكة، بما في ذلك القضايا المُرتبطة بقطاع الطاقة، من المؤكّد أن الإجابة لن تكون أكثر من تقاذف للمسؤوليّات، وحجج لا تشذّ كثيرًا عن الخطاب السائد، والذي يردّده الجميع عن إعاقة «الآخرين» لخطط وأفكار خلاّقة كانت ستنقذ البلاد. في الواقع السياسي القائم، يكاد يكون مستحيلًا تحديد المسؤوليّات في حالة فشل واحدة. وعمليًا، لطالما استفادت الأحزاب السياسيّة من عمليّة صنع القرار المُبهمة وغير المتماسكة لتحوير مسؤوليّاتها عن التدهور المستمرّ في قطاع الطاقة، خصوصًا أن نظام ما بعد الحرب المُسمّى بـ«الديموقراطيّة التوافقيّة»، والذي يقوم أساسًا على مبدأ التحاصص الطائفي بين الأحزاب السياسيّة-الطائفيّة، أعطى لزعماء هذه الأحزاب ووكلائهم في الوزارات إمكانيّة استخدام النظام نفسه لتبرير فشلهم.
(٤) مُقاومة الإصلاحات للحفاظ على الوضع القائم
المثال الأكثر تعبيرًا عن مقاومة الإصلاحات الضروريّة، هو الحالة الراهنة لمؤسّسة كهرباء لبنان، التي خضعت لسياسات مُمنهجة أدّت إلى تفشيل دورها الحيوي على مستويات عديدة، بدءًا من تأمين التغطية الكهربائيّة، مرورًا بالكفاءة الفنيّة والاقتصاديّة، وصولًا إلى الجباية ونوعيّة الطاقة. وفيما كان المعدّل للتحويلات الماليّة المخصّصة لتغطية خسائر مؤسّسة كهرباء لبنان، يتراوح بين ١.٢ و٢ مليار دولار خلال السنوات الأخيرة، كانت مشاريع الطاقة المُتجدّدة ذات الجدوى الاقتصاديّة «تحارب» عبر المُماطلة في تنفيذها. علمًا أن توفير الخسائر المُحقّقة عبر مؤسّسة كهرباء لبنان وحدها، وتوظيفها في مشاريع ذات كفاءة وجدوى اقتصاديّة واجتماعيّة، كانت أكثر من كافية لنقل لبنان إلى مستوى أكثر تقدّمًا من النموّ الطاقوي غير المسبوق. أضف إلى ذلك، ما تشكّله هذه التحويلات من عبء على الموازنة العامّة، وهو ما يعدّ إشكاليّة بذاته من منظار ميزان المدفوعات كون هذه التحويلات مُخصّصة لشراء الوقود من الخارج، مع ما يعنيه ذلك من نزف إضافي بالعملات الأجنبيّة. لا شكّ أن كلفة الحفاظ على الوضع الراهن مرتفعة للغاية. وما يحصل اليوم في الشارع قد يكون فرصة استثنائيّة لإجراء إصلاح شامل في قطاع الطاقة.
(٥) المُكابرة والعنهجيّة واتخاذ موقف العارف بكلّ شيء
ربّما لا تشعر غالبيّة الناس بذلك، بل فقط بعض الجهات الفاعلة من المجتمع المدني والخبراء والأكاديميين، وخصوصًا أولئك الذين لا يتماشون مع معزوفة التيار الوطني الحرّ المُمسك بوزارة الطاقة منذ العام ٢٠١٠. عمومًا، نادرًا ما تجري نقاشات عامّة ومُشاوارات حقيقيّة، وعندما يحدث ذلك، غالبًا ما يكون بضغط من الجهات المانحة والمؤسّسات الدوليّة.
في النهاية، مُعالجة فشل قطاع الطاقة في لبنان يتجاوز قدرة حزب سياسي واحد، فهو يتطلّب جهودًا منسّقة بين الجميع، بمن فيهم المواطنين، خصوصًا بعد أن أثبتت الانتفاضة الشعبيّة، أنّ اللّبنانيين لَيسوا مستعدّين لتقديم التضحيات المطلوبة قبل لمس أي تحرّك جدّي وفعلي لتأمين الخدمات الأساسيّة للجميع وبجودة أفضل، وتحقيق عدالة اجتماعيّة مفقودة، وترسية ثقافة الشفافيّة والمساءلة والحَوكمة الجيّدة.
علي أحمد، مدير برنامج الطاقة والأمن، معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت.
ينشر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت أسبوعيًا سلسلة من المقالات حول مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات العامة والمرتبطة بالأبحاث والإنتاج الفكري الذي يصدره المعهد. تهدف هذه المقالات إلى تحليل الوضع القائم والبناء عليه لتقديم اقتراحات عملية للعام ٢٠١٩ قد تُلهم صناع السياسات وأصحاب القرار والمهتمين بإيجاد حلول للأزمات القائمة وسبل للتطوّر والتقدّم في مجالات مختلفة.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.