فاطمة الموسوي | الأربعاء، ٦ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٩
"تسقط بس!" الشعار الذي انطلق مع الثورة السودانيّة، أراد أن يقول "الشعب يُريد إسقاط النظام" (الحاكم آنذاك) "هكذا! دون كلام، حوار أو مفاوضات" وعكس حالة النقمة الشديدة التي فرضت رفضًا للحوار والمساومة بين الشعب الغاضب والسلطة الحاكمة. والاحتجاجات السودانيّة اندلعت مع نهاية عام ٢٠١٨ حين انقطعت الموارد الأساسيّة، وتراجعت قيمة العملة السودانيّة مقابل الدولار مما دفع بالملايين إلى الشوارع للتظاهر في العاصمة الخرطوم ومدن سودانيّة أخرى اعتراضًا على الوضع المنهار. وهو ما يتشابه إلى حدٍّ كبيرٍ مع صورة الوضع في لبنان قُبيل الانتفاضة التي اندلعت في ١٧ تشرين الأول/أكتوبر. ولا تقتصر أوجه التشابه بين ما حصل في السودان ولبنان لناحية الأسباب المباشرة للاحتجاجات بل تتخطّاها إلى أُسس هذين النِظامين. إذ يعتمد كلا النظامَين على الريعية إضافةً إلى نسبة الفساد والمحسوبيّة المُتصاعدة، والإهمال الشديد للقطاعات الإنتاجيّة على رأسها قطاع الزراعة. علاوةً على ذلك، تَتَغلغل عقليّة الخصخصة لمعظم القطاعات العامّة والزواج المُريب بين السياسة وعالم الأعمال في البلدين ممّا يفرز اضمِحلالًا تدريجيًا للطبقات الوسطى كحالِ العديد من الدول العربيّة. وفي لبنان، مشاكل جمّة منوطة بالزبائنيّة والمحاصصة الطائفية وانعدام الاستقرار الاقتصادي والسياسات الماليّة والتهرّب الضريبي وسلب المساحات العامّة والتلوّث والأسلوب الرديء في إدارة ملف النفايات وسوء توزيع الثروة. فباتت الأوضاع أكثر من أي وقت مضى مدعاة نقمة شعبيّة. قُبيل منتصف تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٩ اندلعت حرائق كُبرى في العديد من المناطق اللّبنانيّة، تكاتف إثرها المواطنون لإطفائها بالتزامن مع بروز تقاعس شديد من قبل الدولة في التعامل مع الأزمة. ولم يمرّ يومان على هذا التقاعس – الفضيحة حتى خرج وزير الاتصالات ليقرّ ضريبة جديدة على استخدام تطبيق واتساب ممّا فجّر الشارع المُحتقن والمُثقل بشتّى الهموم. فكانت انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر التي تمكّنت بعد ١٣ يومًا من إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري. وليس بالإمكان سلخ هذه الانتفاضة عن محيط لبنان وعمقه الإقليميَين، فهي جاءت متزامنة مع العديد من الحراكات الشعبيّة، لا سيّما تلك التي تجدّدت في العديد من المناطق العراقيّة للمطالبة بمُحاربة الفساد وإقالة حكومة عبد المهدي. كما وخرجت تظاهرات طلّابية ونقابيّة في الجزائر العاصمة لرفض إجراء الانتخابات الرئاسيّة في ظلّ اتّخاذ بعض الشخصيّات من نظام بوتفليقة مناصب في الدولة. ناهيك عن حراك محدود في القاهرة، وبعض المناطق المصريّة على خلفيّة الفيديوهات التي أطلقها المقاول في القوّات المسلّحة محمد علي والتي اتّهم فيها الرئيس عبد الفتّاح السيسي بتبديد المال العام. فهل بدأت جولة ثانية من "الربيع العربي" في دول لم يشملها سابقًا؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال، خصوصًا أنّ الظروف التي خرجت فيها الانتفاضات الشعبيّة في السودان والعراق والجزائر ومصر ولبنان بين عامَي ٢٠١٨ و٢٠١٩ لا تختلف عن تلك التي أسّست للانتفاضات التي حصلت منذ ثماني سنوات، إن لم نقل أنّها أسوَأ. ولكن تظهر اليوم سِمات أمنيّة وسياسيّة أكثر تعقيدًا، لا سيّما مع استمرار حربَي اليَمن وسوريا، وإن ظهرَتا في طريقهما إلى النهاية أو التعب، إذ أسّس العنف المُمَنهج والاصطدام المسلح (الداخلي والخارجي) مع ما بدأ كانتفاضات شعبيّة محقّة إلى "خلق نموذج الهلع" الذي باتت الدول العربيّة تتجنّبه ولو على حِساب مَنظومتَي العدالة الاجتماعيّة وحُقوق الإنسان. كما كان لِوجود ترامب في سدّة الرئاسة الأميركيّة مُساهمة في تأجيج الصراع الإيراني السعودي القائم اليوم على تَوسيع رقع نُفوذ الدَولتين في العالم العربي بِصِيَغ عدّة. مع انعكاس جليّ للصراع الإماراتي القطري على العديد من البلاد المُنتفضة من خلال نمطيّة الدعم القطري للإسلاميين في وجه المُساندة الإماراتيّة للمنظومات العسكريّة (الأضداد المُفترضين للإسلاميين في المنطقة العربيّة) في العديد من البلدان. تصبح الثورات بوصفها خطوة طبيعيّة ومفهومة نحو المجهول (إذ أنّها الإطار السياسي والاجتماعي لهدم الواقع وبناء غيره) - في ظلّ مشهدٍ كهذا - محفوفة بمزيدٍ من الخطورة والتوجّس مهما كانت الدوافع الاقتصاديّة والاجتماعيّة بالغة الأهميّة، مُحقّة وحاضرة في يوميّات المواطنين. وللبنان تاريخ غير بعيد من الاقتتال الطائفي والمذهبي الذي ما زال جاثمًا فوق حاضره، هيكليّته المؤسّساتيّة وذاكرة شعبه. والذي يعرف لبنان جيّدًا يُدرك أنّ شعبه يخشى أن يعود يومًا إلى سيناريو حرب ١٩٧٥ الأهليّة. انطلقت انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر في لحظة تشي باضمحلال الشبح الطائفي وتغليب منطق الطبقيّة على الحراك، لا سيّما مع تفجّر المُظاهرات في أكثر من منطقة ضدّ أكثر من زعيم، وفي ظلّ غياب الأعلام الحزبيّة وحصر الشعارات بمطالب وطنيّة جامعة. حتمًا لم تنتهِ الطائفيّة السياسيّة أو الاجتماعيّة في لبنان لمجرّد خروج اللّبنانيين سويًّا إلى الشارع. فالواقع يقول أنّ حجم المأزق الاقتصادي والمالي الثقيل الذي يحملونه جميعًا دخل في مرحلة العناية الفائقة وبات ملزمًا أن يخرج الجميع لأن الانهيار الوشيك لن يستثني طائفة أو جماعة أو منطقة. هذه المُفارقة رفعت أسهم الدوافع الطبقيّة في وجه الموروثات الطائفيّة فباتَ من المُمكن القول أنّها مَكسب مؤكّد في المسار الطويل لهذه الانتفاضة لكنها حتمًا لم تنهها. استقالت حكومة سعد الحريري بعد ساعة من هُجوم شبّان تابعين لأحزاب في السلطة على المتظاهرين فوق جسر الرينغ بحجّة قطع الطرقات (وإن اتّخذ قرار الاستقالة قبل الهجوم على المتظاهرين) ممّا يعني أن السلطة اللّبنانية غير المتجانسة "ظاهريًا" بردّات فعلها قد اتّخذت قرارها بتطويع الشارع إما من خلال العنف أو من خلال الاستجابة. شبّه أحد المتظاهرين تلك الساعات المُتتالية المفصليّة "بالعصا والجزرة" بما لا ينتقص من أهميّة الضغط الذي أنجزته الانتفاضة على الحكومة، بل يحذّر من تكتيكات سلطة تعرف تمامًا مفاتيح الشارع والمؤسّسات و"أهميّة التوقيت". أفرزت الاستقالة غضبًا شعبيًا عارمًا وسط مؤيّدي الحريري الذين خرجوا تعبيرًا عن غضبهم "لوقوع الفأس برأس منصب رئيس الحكومة" ممّا يوحي للمراقبين بأنّ الحريري هو الرئيس الذي سيُعاد تكليفه لضبط نبض الشارع الغاضب. مشهد يؤكّد أنّ، في الحلول اللّبنانية الكبرى، اليد العليا هي لضبط التصادم الطائفي وليس لمُعالجة الكارثة الطبقيّة المُحتملة وهنا أعود إلى شعار "تسقط بس" الذي أطلقه السودانيّون إنّما بمعناه الحرفي هذه المرة، فهل تفرض التركيبة الطائفيّة "المستمرّة" للبلد تخفيض سقف المطالب والاكتفاء بإسقاط الحكومة مع عودة الحريري رئيسًا مكلّفًا أم أنّ الانتفاضة لن تهدأ إلّا بِسقوط ركائز أكبر لهذا النظام الذي أوصل الجميع إلى هذه النقطة برغم تصريح وتلميح النظام أنّ رفع السقف المطلبي سيؤدّي إلى اقتتال طائفي؟ السيناريوهات جميعها محتملة لا سيّما أن نبض الحراك لا يزال قائمًا ومتنبهًا في الشارع، كما أنّ الطبقة السياسيّة تعي أكثر من أي وقتٍ مضى أنّها مضطرة لاستخدام كل أساليبها من أجل البقاء.
لَعِب تدخّل تجمّع المهنيين السودانيين ومشاركته في الاحتجاجات دورًا مفصليًّا لصالح الانتفاضة السودانيّة في قيادة وتنظيم الحراك ضدّ عمر البشير، ولاحقًا ضدّ المجلس العسكري. واليوم بدأ العديد من المهنيين والنقابيين في لبنان بتأسيس "تجمّع مهنيات ومهنيين" لتنظيم الحراك وتوحيد جهود مختلف الحركات المدنيّة الذي طالب بتشكيل حكومة انتقالية تمثل الشعب ولا وجود فيها لأحزاب السلطة ولحماية الشعب من المخاطر الاقتصادية التي تهدده. من شأن نشأة هذه التجمعات أن تقطع الطريق على من يُحاول "خطف الثورة" من أبناءها.
فاطمة الموسوي، باحثة في القضايا الجندرية وحركة المجتمع المدني في لبنان والعالم العربي في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت.
ينشر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت أسبوعيًا سلسلة من المقالات حول مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات العامة والمرتبطة بالأبحاث والإنتاج الفكري الذي يصدره المعهد. تهدف هذه المقالات إلى تحليل الوضع القائم والبناء عليه لتقديم اقتراحات عملية للعام ٢٠١٩ قد تُلهم صناع السياسات وأصحاب القرار والمهتمين بإيجاد حلول للأزمات القائمة وسبل للتطوّر والتقدّم في مجالات مختلفة.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.