مارك أيوب | الأربعاء، ١١ كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٩
كلُّ منّا شعر ببصيص أملٍ يوم أُقرّت خطّة الكهرباء في ٨ نيسان/أبريل ٢٠١٩، هو الأمل نفسه الذي رافق إقرار خطّة الكهرباء في حزيران/يونيو ٢٠١٠. وبصرف النظر عن الانتماءات السياسية أراد معظم المطّلعون على شؤون هذا القطاع وتفرّعاته النجاح لهذه الخطط، خاصةً وأن هذا القطاع استنزف ماليّة الدّولة وخزينها على مدى عقود ولا يزال. كما ساهم قطاع الكهرباء بشكلٍ كبير في الوصول إلى الأزمة الحالية من خلال قضمه لحوالي ٣٦ مليار دولار بين ١٩٩٢و٢٠١٧ (٢٠٫٦ مليار دولار تحويلات و١٥٫٤مليار دولار فوائد بمعدّل ٦٫٨٪ سنويًّا)، ما يشكل حوالي ٤٥٪ من إجمالي الدين العام في ٢٠١٨ وحوالي٢٠٪ من مجمل الإنفاق العام لدعم هذا القطاع. بضع شهور كانت كفيلة لإظهار أن الأمور ليست على ما يرام وأن الخطّة بدأت تفقد اندفاعتها، ليس لعدم جدواها من الناحية التقنية بل لأن الطبقة السياسية مجتمعة ً قررت الاستمرار بإدارة هذا القطاع وفق نظام المحاصصة وتقاسم المنافع، وأصبحت السياسة تحرّك النقاش التقني لا العكس، في ظل غياب رؤية واضحة للسنوات المقبلة. لعلّ أبرز تجليّات انتفاضة الشعب منذ ١٧ تشرين الأول/أكتوبر والتي اندلعت لأسباب معيشية بحتة تتعلّق بالحصول على أدنى الحقوق الحياتية، هي أنها منحت الأمل بإمكانية التغيير على مستوى النظام الاقتصادي المتّبع كما على صعيد القطاعات الخدماتية كافّةً وخاصةً قطاع الطاقة، لما له من آثار مباشرة على العجز المالي بشكل عام، وعلى عجز ميزان المدفوعات المتمثل بالحاجة الدّائمة للعملات الأجنبية لتسيير شؤون القطاع. لذا، من المفيد تصويب النقاش والبوصلة، والحديث عن خطة طوارئ لقطاع الطاقة (An Emergency Action Plan for Rescuing Lebanon’s Energy Sector) ينفذها الوزير(ة) المقبل(ة) تتطابق مع آمالنا وتطلعاتنا في إرساء سياسات عامّة واضحة تؤسس للمرحلة الإصلاحيّة، فالتحوّل الطاقوي (Energy Transition) الذي يتوق إليه العالم اليوم مبنيّ على هذه السياسات أكثر ممّا هو معتمد على مجاراة التطوّر التكنولوجي. قد يتشعّب النّقاش عند الحديث عن قطاع الكهرباء ومشاكله، وتختلف الآراء حول أولويّات المرحلة المقبلة، إلا أن إحداث صدمة إيجابية تواكب مطالب الشعب وتطلّعاته يفرض على من سيتولى المسؤولية إيلاء الاهتمام للجوانب الأساسية الأربعة التالية: أولًا: يحتاج لبنان الى إحداث تحوّل جذريّ في طريقة إدارة قطاع الطّاقة الذي اتّسم بصورة سلبية على مدى عقود وحُمّل حصّة كبيرة من الدّين العام المتراكم، فعكس صورة فشل الدولة في تأمين أبسط الخدمات للمواطنين، كما شكّل مثالاً على المنطق الذي حكم البلاد من فسادٍ وزبائنيّة وعشوائية على صعيد التخطيط والتنفيذ والمتابعة. يجدر بالإدارة الجديدة أن تنقل الحديث عن الكهرباء من موقعها التراجعي الحالي كسلعةٍ يجب توفيرها للشّعب للاستعمال المنزلي البسيط وربط الأحياء والمدن بعضها ببعض، إلى الموقع التطوّري التقدّمي ودور القطاع في الاقتصاد والمجتمع وخاصةً الحاجة للكهرباء في العديد من القطاعات الانتاجيّة ذات الاستخدام الكثيف كالصناعة والتكنولوجيا واقتصاد المعرفة والنقل العام، وغيرها. كما يتطلب ذلك إعادة الثّقة بالقطاع والمؤسسات الحكومية المنوطة إدارته، عبر جعله أكثر شفافيّة وتطبيقًا للقوانين ورفع اليد السياسية للأحزاب والطوائف عن التدخّل في شؤونه وتقاسم مغانمه، والإسراع في تطبيق كافة مندرجات القانون ٤٦٢/٢٠٠٢ من خلال تعيين هيئة منظمة للقطاع مستقلّة بالكامل، وحثّ البرلمان للعمل على تطوير هذا الإطار القانوني. ثانيًا: لم يتمتّع لبنان منذ انتهاء الحرب برؤية طاقويّة واضحة حدّدت المزيج الطاقوي (Energy Mix) الذي نريد في السنوات العشر أو العشرين المقبلة، فكان يتمّ التعاطي مع أزمات الكهرباء من خلال اجتراح الحلول الآنيّة الموضعية التي تعيد إنتاج المشاكل نفسها. لذا، لا بد من تصويب العمل منذ اليوم الأول ووضع تصور للمزيج الطاقوي المرتقب في ٢٠٣٠، عبر وضع خطة للمرحلة ٢٠٢٠-٢٠٢٥ وإعادة تطويرها بين ٢٠٢٥-٢٠٣٠ لما يتلاءم مع أمننا الطاوقي كما مع الأسواق والتكنولوجيا. أضف إلى ذلك، لا بدّ من تحديد دور الطاقات المتجدّدة وحجمها في هذا المزيج والتي أصبحت من أرخص مصادر الطاقة عالميًا وأسرعها، فلطالما تطلّعت الدّولة الى هذه الطاقات كمكوّن إضافي للطاقات المعتمدة وليس كجزء لا يتجزأ منها ومحرّك للتحوّل المنشود. انّ التحوّل الطاقوي عبر الاعتماد الكلّي على الطاقات المتجدّدة قد يكون صعبًا في هذه المرحلة على الرغم من القدرة التقنيّة على ذلك، وبالتالي يتوجب على الدّولة وضع تصوّر واضح عن التقنيات التي سترافق اعتماد هذه الطاقات كمعامل الغاز وعددها على سبيل المثال، وربطه بالطلب المتوقّع للسنوات العشر المقبلة. فاعتماد الغاز الطبيعي كمصدرٍ صديق للبيئة وأقل كلفةً من الفيول أويل والديزل المعتمدين حاليًّا أصبح حاجة ملحّة خاصّةً في ظلّ الأزمة المالية التي نعيشها وشحّ العملات الأجنبية التي نحتاج لاستقدام هذا الفيول. وهنا لا بدّ من إعادة النّظر بالجدوى الاقتصاديّة لاستقدام 3 محطّات التغويز (FSRUs) وإعادة تقييم للكميّات التي تحتاجها المعامل الحاليّة، والاتجاه نحو استقدام محطّة تغويز واحدة. ثالثًا: أمّا على الصعيد المالي، وفي سياق الحديث عن الإصلاح في هذا القطاع، تبرز إعادة النّظر في تعرفة الكهرباء المثبّتة منذ عقود كجزء من خطّة الحلّ، لا كما يُصوّر على أنه الحل الوحيد. فعلى الوزارة الجديدة النّظر في الآثار الاقتصاديّة والاجتماعية المترتّبة عن تحميل ميزانيات الأسر نحو ٢٥٠٠ مليار ليرة (ما يعادل ١٫٦ مليار دولار) إضافية عبر زيادة التعرفة من دون تدعيم شبكة الأمان الاجتماعي لهذه الأخيرة، إذ ليس بمقدور الجميع تحمّل زيادة أسعار الكهرباء، وبالتالي سيتمّ حرمان الكثيرين منها أو دفعهم للحصول عليها بطريقة غير شرعية. انّ رفع التعرفة يجب أن يترافق مع مجموعة خطوات أبرزها الوصول إلى حوالي ٢٠ ساعة تغذية يوميًّا كما استثناء المشتركين ذوي الاستهلاك المنخفض (الأسر الفقيرة) من خلال سياسة دعم ذكية وفعّالة، أو استخدام الوفر المالي المُحقّق في المالية العامّة لتمويل مشاريع ذات طابع اجتماعي كتقديم التغطية الصحّية الشاملة على سبيل المثال. رابعًا وأخيراً، انّ أبرز العوامل التي ستعيد ثقة المواطنين بكيفية إدارة هذا القطاع يكمن في تعزيز ثقافة المساءلة والمحاسبة والشفافية، خاصةً في ظل وجود قوانين واضحة تفعّل آلية الحوكمة وتحدّد معاييرها وإجراءاتها التنفيذية. من هنا لا بد من تطبيق كافة مندرجات القانون ٢٠١٧/٢٨ المتعلق بالحقّ في الوصول إلى المعلومات وتحديد الجهات أو الأشخاص المخوّلين داخل الوزارة البتّ بجميع الطلبات والتواصل مع كافة المديريّات. كما يتعيّن تطبيق البند السابع من الفقرة ١٠ من القانون ٢٠١٨/٨٤ المتعلق بتعزيز الشفافية في قطاع النفط والغاز ونشر أسماء المساهمين المستفيدين في الشركات المُتعاقدة. قد يكون عمر الحكومة المقبلة قصير نسبيّاً أو يكون دورها متمحورٌ حول عناوين سياسية عريضة لرسم معالم المرحلة القادمة، إلّا أنها تأتي من انتفاضة شعب يئس الانتظار وقرر كسر كل القيود، ويُتوقّع منها تحقيق بعض من تطلعاته وآماله، وهي بالتالي تشكّل فرصة لوضع المداميك الأساسية الآيلة إلى إحداث تحوّل في قطاع الطاقة وجعله في صلب محركات الاقتصاد. فهل نغتنم الفرصة؟
مارك أيوب، باحث في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدّولية في الجامعة الأميركية في بيروت.
ينشر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت أسبوعيًا سلسلة من المقالات حول مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات العامة والمرتبطة بالأبحاث والإنتاج الفكري الذي يصدره المعهد. تهدف هذه المقالات إلى تحليل الوضع القائم والبناء عليه لتقديم اقتراحات عملية للعام ٢٠١٩ قد تُلهم صناع السياسات وأصحاب القرار والمهتمين بإيجاد حلول للأزمات القائمة وسبل للتطوّر والتقدّم في مجالات مختلفة
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.