خليل جبارة | الجمعة، ٢٠ كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٩
أصدر حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، تعميمًا في الرابع من كانون الأوّل/ ديسمبر الحالي، وضع بموجبه سقفًا لمعدّلات أسعار الفائدة الممنوحة على الودائع المصرفيّة بالدولار الأميركي والليرة اللبنانية. وأيضًا، تمّ تناقل أخبار أخرى تفيد بأن مصرف لبنان قد يصدر تعميمًا آخر يعطي بموجبه غطاءً رسميًا للقيود المالية غير الرسمية (السحب والتحويل) التي تنفّذها المصارف التجارية حالياً بقرارات صادرة عن جمعية مصارف لبنان. في الواقع، تنصّ مقدّمة الدستور اللبناني، التي أضيفت بعد اتفاق الطائف في العام ١٩٩٠، على أن النظام الاقتصادي في لبنان هو نظامًا حرًّا، يكفل المبادرة الخاصّة والملكّية الخاصّة. انطلاقًا من هنا، برزت إشكالية كبيرة حول مدى شرعيّة الإجراءات غير الرسميّة التي قامت بها المصارف التجارية، لا سيّما أن جمعية مصارف لبنان تأسّست في العام ١٩٥٩، بعد أربع سنوات من صدور قانون النقد والتسليف الذي أنشأ مصرف لبنان، بموجب قانون الجمعيّات الصادر في العام ١٩٠٩، والذي لا يمنحها، بطبيعة الحال، الحقّ في إصدار تدابير مماثلة وتنفيذها. من هنا، قد يحاجج البعض بأن كلّ ضوابط رأس المال غير دستورية، لكن على الرغم من ذلك، تتطلّب عملية قوننتها تشريعًا من مجلس النواب وليس مجرّد تعميم يصدره مصرف لبنان. اعتاش النموذج الاقتصادي اللبناني، حتّى الآن، من التدفّقات الحرّة لرأس المال، ومن تحويلات المغتربين اللبنانين والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وأيضًا عبر الاعتماد المُفرط على قطاع السياحة والخدمات. لذلك، تلعب المصارف التجارية دورًا محوريًا في النموذج الاقتصادي الحالي، كونها مسؤولة عن تمويل العجز البنيوي في الموازنة العامّة، وتغطية العجز التجاري، وإقراض الأُسر والأفراد لتعويض ركود الرواتب وانخفاضها في القطاع الخاصّ، وتوفير خطوط ائتمان مختلفة للمقاولين والمستشفيات والمورّدين الحكوميين الذين ينتظرون، عادةً، فترات طويلة للحصول على مستحقّاتهم الناجمة عن الخدمات المقدّمة. بمعنى أوضح وأبسط، تعدّ المصارف التجارية محرّك هذا الاقتصاد المدولر والهشّ، المدمن على العملات الأجنبية، والذي يعتمد على النموّ المستمر في الودائع المصرفية. استفاد النموذج الاقتصادي في فترة ما قبل الحرب الأهلية، بشكل كبير، من الحروب والاضطرابات السياسية في المنطقة، لا سيّما بعد حرب العام ١٩٤٨ التي أدّت إلى احتلال فلسطين وتحوّل التجارة من ميناء حيفا إلى مرفأ بيروت، ومن ثمّ هجرة رأس المال السوري إلى لبنان نتيجة الانقلابات المتتالية في سوريا وسياسات التأميم، ولاحقًا إصدار البرلمان اللبناني قانون السرّية المصرفية في العام ١٩٥٦ لجذب رؤوس الأموال العربية. أمّا النموذج الاقتصادي بعد الحرب الأهلية، فقد اعتمد على سعر صرف ثابت، وتدفّق حرّ في حركة رأس المال وأسعار فائدة مرتفعة لجذب الأموال من الخارج وضمان نموّ مستمر في الودائع المصرفية. إلى ذلك، يعدّ العجز المستمرّ في ميزان المدفوعات المؤشّر الرئيس لتخبّط هذا النموذج وعدم قابليته وقدرته على الاستمرار. لكن بدلاً من التعامل مع أوجه القصور المالية والنقدية الرئيسية، التي أدّت إلى عجز مزدوج (عجز في الموازنة وكذلك في ميزان المدفوعات)، رُفِعت أسعار الفائدة لجذب المزيد من الأموال من مصادر جديدة، وأجرى مصرف لبنان العديد من الهندسات المالية لزيادة الاحتياطيات الأجنبية. بحيث أدّت هذه التدابير إلى زيادة الالتزامات بالعملات الأجنبية، ومزاحمة الاستثمارات الخاصّة وإخراجها، وخفض سيولة المصارف التجارية بالعملات الأجنبية وزيادة إمكانية تعرّضها لأي إخفاق في سداد سندات الدولة بالعملات الأجنبية (يوروبوندز). عمليًا، يعلن التعميم الأخير الصادر عن مصرف لبنان نهاية النموذج الاقتصادي الذي اعتُمِد منذ تسعينيّات القرن الماضي، إذ لم يعد لبنان قادرًا على الحصول على تدفّقات مستمرّة لرأس المال لتمويل العجز التجاري والعجز في المالية العامّة، لا سيّما بعدما انكسرت الثقة بين المصارف التجارية وعملائها، إذ لم يعد المستثمرون والمغتربون يثقون بأن أموالهم ستكون آمنة في المصارف اللبنانية بعد الآن، وهو ما يتطلّب جيلاً، على الأقل، لتتمكّن المصارف من التعافي واستعادة الثقة. في الواقع، انكسرت هذه الثقة في السابق، عندما أدّى انهيار بنك "إنترا" في العام ١٩٦٦ إلى اهتزاز النظام السياسي وارتفاع نسبة انعدام الثقة بين مختلف الأحزاب السياسية. في حينها، وضعت نظريات مختلفة لتفسير سبب انهيار هذا المصرف، الذي أسّسه يوسف بيدس في العام ١٩٥١ وكان يستحوذ على نحو ١٥% من مجمل الودائع المصرفية. في أعقاب انهيار "إنترا"، أعاد المصرف المركزي والحكومة اللبنانية هيكلة البنك ليصبح "شركة إنترا للاستثمار"، المملوكة حاليًا من المصرف المركزي وعدد من المساهمين السابقين في بنك "إنترا"، ومعها شركات أخرى كان يمتلكها البنك مثل شركة طيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان. والأهمّ من ذلك، تمّ انشاء هيئات رقابية وناظمة في العام ١٩٦٧ لتجنّب مواقف مماثلة، وهي لجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفية العليا ومؤسّسة ضمان الودائع. لكن المثير للسخرية، راهنًا، هو أن الهيئة المصرفية العليا غير قادرة على الاجتماع، اليوم، لتأديّة مهامها، لأن الحكومة السابقة لم تستطع تعيين نواب جُدد لحاكم مصرف لبنان بسبب الخلافات على أسماء المرشّحين بين الأحزاب السياسية. اليوم، هناك حاجة لتصميم نموذج اقتصادي جديد وواضح. وهنا، لا يمكن للمرء إلا التساؤل عمّا إذا كانت النخبة السياسية الحاليّة والسلطات الماليّة لديها الإرادة والقدرة على إدارة مثل هذه العملية الصعبة، خصوصًا وأن هذا النموذج يتطلّب تنظيمات وتشريعات جديدة، من بينها، وضع حدّ أقصى وسقف لنسبة تمويل الالتزامات المالية الحكومية المسموح بها من قبل مصرف لبنان، وفرض مجموعة من التدابير للحدّ من تضارب المصالح بين المصارف التجارية والسلطات المالية الرسمية، ووضع آليات أفضل تسمح بالإفصاح الدوري والنشر المنتظم للميزانية السنوية لمصرف لبنان كي لا تتكرر أخطاء الحاضر مستقبلاً.
خليل جبارة، أستاذ وخبير في الشؤون الإداريّة والاقتصاد السياسي والتنمية المحليّة والسياسات العامّة، وزميل السياسات في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركيّة في بيروت.
ينشر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت أسبوعيًا سلسلة من المقالات حول مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات العامة والمرتبطة بالأبحاث والإنتاج الفكري الذي يصدره المعهد. تهدف هذه المقالات إلى تحليل الوضع القائم والبناء عليه لتقديم اقتراحات عملية للعام ٢٠١٩ قد تُلهم صناع السياسات وأصحاب القرار والمهتمين بإيجاد حلول للأزمات القائمة وسبل للتطوّر والتقدّم في مجالات مختلفة
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.