Blog

  • Home
  • Blog
  • ربط المعرفة بصنع السياسات: تجربتي المهنية كباحث

ربط المعرفة بصنع السياسات: تجربتي المهنية كباحث

ساري حنفي

أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت،
مؤسس ومدير البوابة الإلكترونية حول الأثر الاجتماعي للبحث العلمي حول/من العالم العربي (أثر)

في إطار مجتمع المعرفة واقتصاده، اهتمت الكثير من الدول بربط المعرفة بصنع السياسات. غير ان العالم العربي، وبكلّ أسف، تأخر كثيرا في مجال الربط. سأقدم هنا ثلاثة أمثلة شهدت عليها من خلال تجربتي المهنية كباحث: مثال من فرنسا واثنان من لبنان.<!--more-->

ففي أوائل التسعينيات، كان الحجاب الإسلامي محل نقاشٍ بعد أن طرد مدير لمدرستين طالباتٍ محجَّباتٍ من مدارسهن. عقب ذلك، أمر وزير التعليم بإعداد تقرير (ورقة بيضاء) في مسألة حجاب القاصرات، وتم تكليف لجنة استشارية مؤلفة من باحثين في العلوم الاجتماعية المنتمين إلى مدارس فكرية مختلفة للقيام بهذه المهمة. كان أحد أعضاء اللجنة عالم الاجتماع آلان تورين الذي يترأس مركز التحليل الاجتماعي والتدخل (CADIS). حرّك هذا البحث المركَّز الذي همّ بالعمل الميداني والفكري، اذ كتب باحثو هذا المركز العديد من المقالات وتفاعلوا مع العموم وتلقّوا ردوداً من الباحثين والناشطين. وبعد بضعة أشهر، كان التقرير جاهزاً وتمّ تسليمه إلى الوزير الذي دعا بدوره إلى عقد مؤتمر صحافي. خلال المؤتمر الصحافي جلس الوزير بين أعضاء اللجنة بينما كان رئيس اللجنة يلخص التقرير وتوصياته، وقد كانت نسخ التقرير متاحةً للصحافيين ولأي شخصٍ مهتم. وفعلاً أصبح هذا التقرير محور النقاش المجتمعي في الوسائط الإعلامية لأكثر من شهر. بعد ذلك دعا الوزير إلى عقد مؤتمر صحافي آخر برفقة أعضاء اللجنة الاستشارية وأعلن توصيته التي تبنت نتائج أعمال اللجنة الاستشارية ورفعها للبرلمان الفرنسي والتي قضت بحظر جميع الرموز الدينية في المدارس الحكومية بما فيها الحجاب. إنّ المثير للاهتمام في هذه العملية هو مركزية التقرير كأداة لترشيد النقاش والدور الهام الذي تؤديه البحوث في مناقشة القضايا المجتمعية. وقد ساهمت المؤتمرات الصحفية وخصائصها ومجرياتها (وجود أعضاء اللجنة مع الوزير) في تدعيم ثقة الجمهور ب البحث والعلم.

أما المثال الثاني فهو من لبنان، ففي عام 2015 فاحت روائح النفايات، وانتشرت أكوام النفايات على طول الطرق في مدينة بيروت وغيرها. وقد عُرفت هذه الأزمة باسم "أزمة النفايات"، وقد أدّت إلى حركة اجتماعية ضد سياسة الحكومة لإدارة النفايات. أدّت الأزمة إلى خروج الشعب في أكظاهرةٍ له منذ عام 2005، وقد أثارت التظاهرة ردود فعل عنيفة من جانب أجهزة الدولة. ودار نقاش ساخن حول ما هي أفضل الخيارات في التعامل مع أكوام النفايات والأزمة المستجدة. وقد حشدت هذه القضية قدراً كبيراً من الكتابة والمقابلات الإعلامية مع الناشطين والأكاديميين والسياسيين. وأثناء إحدى هذه المقابلات على قناة لبنانية محلية، دافع رئيس الوزراء عن بعض الخيارات المقترحة لحل مشكلة النفايات وعندما استفسر مقدم البرنامج عن مشاركة العلماء والباحثين البيئيين في المشاورات التي سبقت قرار الحكومة، ذكر رئيس الوزراء أن هناك دراسة أُجريت حول موضوع النفايات فأورد مجموعةً من النتائج التي أظهرت أن الدراسة والتقارير هي مجرد أداة هامشية في عملية صناعة القرار. ولم يكن هناك طقوس إعلامية لتوعية الجمهور اللبناني حول كيفية مناقشة هذه القضية في الأوساط العلمية. فضلاً عن ذلك، لم يذكر رئيس الوزراء حصول أيّ مشاوراتٍ مع الدوائر الاجتماعية والسياسية المختلفة؛ حيث إن مشكلة النفايات ليست، في جوهرها، قضية تقنية بحتة، بل هي قضيّة اجتماعيّة وسياسيّة أيضاً. فمن جهة، هناك مصالح متضاربة لجماعات سياسية مختلفة أرادت حصة في عملية جمع النفايات (التي تبيَّن أنها تجارة مربحة)؛ ومن الجانب الآخر، فإن العديد من أصحاب القرار يرتبطون بمصالح مختلفة لمجموعات متنوعة من الطبقات الاجتماعية، الريفية/الحضرية، الطوائف، إلخ.

وللمقارنة، يمكن للمرء أن يلاحظ أن صنّاع القرار في فرنسا (الوزراء والبرلمان) حشدوا على مر السنين تحالفات بين الأوساط العلمية لدعم خيارات سياسية معينة، كما حدث حين حشد المجتمع الفرنسي الجمهور خلال مناقشة تقرير حجاب طالبات المدارس.

أمّا المثال الثالث فهو يتعلق بقضية الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية للاجئين الفلسطينيين في لبنان. ورغم تميز هذا الموضوع المزمن (منذ 1948) بوفرة البحوث والدراسات العلمية، إلاأن هذه البحوث لا تؤثر في القرارات السياسية. ففي الواقع، إنّ السلطات اللبنانية على بيِّنة من الوضع المأسوي للاجئين الفلسطينيين، وأنشأت في عام 2005 لجنة الحوار اللبناني- الفلسطيني للتعامل مع هذا الوضع. وأُتبعت هذه اللجنة لرئاسة مجلس الوزراء لإعطائها الأهمية، ومولتها بشكل كبير جهات مانحة مهتمة بتحسين وضع الفلسطينيين في لبنان. وبعد نحو 12 عاماً من إنشائها، وعلى الرغم من إخلاص رؤساء هذه اللجنة المتعاقبين، لم يُحرَز تقدم يذكر ولا سيَّما فيما يتعلق بالوضع القانوني للفلسطينيين. وكشفت لجنة الحوار نفسها عن أنها لجنة "مونولوج" أكثر منها "ديالوج" أي حوار لبناني-لبناني داخلي منغلق. ولا يزال اللاجئون الفلسطينيون محرومين من حق ممارسة مهن كثيرة في لبنان، ويحظر عليهم أيضاً الحصول على تصريح عملٍ أو امتلاك عقارات. ولا يمكن الا الاعراب عن خيبة الامل إزاء عدم وجود تأثير اجتماعي للبحوث والدراسات الميدانية في معالجة الشاكل الاجتماعية فعلى الرغم من مئات الدراسات التي أجريت (والتي بلغت تكلفتها عشرات الملايين من الدولارات)، فإن غياب الإرادة لتغيير السياسة الحكومية والطبقة السياسية يجعل كل المعرفة المنتجة ذات أثر اجتماعي ضئيل. بالإضافة إلى ذلك، وفي كل مرة كان هناك زخم بحثي ناتج من توصيات منبثقة من أبحاث وتقارير لتغيير السياسات، طلبت هذه الجهات الفاعلة مزيداً من الدراسات. فيصبح، بالتالي، الإنتاج المعرفي وسيلة لتجميد السياسات وتأخيرها بدل من تفعيلها.

قد لا يكون لدى صانعي القرار فرصة لقراءة هذه الدراسات، ولكنهم كذلك لا يهتمون بها (فالجهل هنا هو فرصة ضائعة أو خيار انتقائي)، أو قد يتصنعون الجهل كحيلة استراتيجية أو كمركّبٍ فعّال يمكن استخدامه لأهدافهم.

لقد طوَّر روبرت بروكتور مفهوم هندسة الجهل أو التجاهلية (Agnotology)، فالجهل ليس "انعدام المعرفة" فقط، بل هو "مُنتَج" يتم صنعه وتوزيعه لأهداف معيّنة، غالباً سياسية أو تجارية، وهو تضليل استراتيجي ومُمنهج يستند إلى ثلاث استراتيجيات: بث الخوف؛ إثارة الشكوك؛ وصناعة الحيرة. وتوفر دراسة التجاهلية إطاراً مفاهيميا يمكن من خلاله استكشاف الظواهر التي لا يدركها الناس عمداً، والسعي للحفاظ على غياب الوعي (الجهل المتعمد) (مثلا، عدم ذكر المداخيل التي تدخل على البلد المستقبل للاجئين) والظواهر التي يدركها الناس؛ ولكن مع ذلك يعبّرون عن غياب الوعي فيها (الجهل المعلن) (مثلا، معرفتهم أن عدد الفلسطينيين في لبنان 172,000 حسب التعداد ويتحدثون عن وجود نصف مليون فلسطيني). وبناءً على مفاهيم مثل "فقدان الذاكرة الهيكلي" (Structural Amnesia) و"عدم التفكير" و"حالات الإنكار"، تشير التجاهلية إلى نظرية الجهل الاجتماعي التي تفترض أن الجهل منتشر، وأنّه يتركّب اجتماعياً، وأنه يمكن أن يكون مفيداً للسياسيين. فالجهل، من هذا المنظور، ليس إغفالاً بسيطاً أو فجوة، ولكنّه شيء يتم الحفاظ عليه، والتلاعب به.

وأخلص بالقول إنّ الدول العربية غير مهتمة بتأسيس سياساتٍ قائمة على الأدلة العلمية، أو أنّ أكثر تلك الدول تختار بعض الحقائق وتتجاهل التحليلات التي تتعارض مع السياسات التي تختارها. وقد بينت دراسة حول صناعة القرار في الأنظمة العربية من خلال دراسة كلا من حالة الأردن والجزائر والسعودية والسودان وسوريا والعراق والكويت ولبنان ومصر والمغرب واليمن لتخلص منسقة المشروع نيفين مسعد في 2009 الى خلاصة قاتمة أن عملية صنع القرار تتسم بعدم المؤسسية، والعشوائية وعدم الخضوع للتشاور أو الاستجابة للضغوط الشعبية إلا في الحد الأدنى وفقدان المصداقية. وفي السياق عينه يؤكد المجلس الوطني للبحوث العلمية، إنّ الحكومة اللبنانية تطلب عدداً أكبر من التقارير العلمية عندما تكون المشكلة تقنيّةً وعدداً أقلّ عندما تكون المشكلة اجتماعية الطابع..