Blog

  • Home
  • Blog
  • عدالة أم انتقام: السّجون اللّبنانية في ظلّ الأزمة الصحّيّة

عدالة أم انتقام: السّجون اللّبنانية في ظلّ الأزمة الصحّيّة

محمد صبلوح وماري قرطام | الخميس، ٩ نيسان ٢٠٢٠

IFI op-ed #16 (2020) في ظلّ الأزمة السياسيّة أوّلًا، والصحّية ثانيًا التي يشهدها العالم بأسره، حيث تخطّى عدد المصابين بفيروس كوفيد-١٩ حتّى هذه اللّحظة المليون حالة، يعيش معظم سكّان العالم في "الحبس" الاستثنائيّ للوقاية والحماية الفرديّة والجماعيّة. ولكن، ما هي حال من يعيشون الحبس القسريّ في السّجون المكتظّة، ومن يعملون داخلها؟ فهل يستطيعون حماية أنفسهم، وهل يتم اتخاذ الإجراءات الوقائية الكفيلة بحماية صحّتهم على مستوى سياسات الصحة العامة لمكافحة انتشار وباء كوفيد-١٩؟ تنتشر الأمراض المعدية في السجون، حتى في الأوقات العاديّة، بسبب تضافر عوامل تسهّل من انتشار العدوى ومن ارتفاع نسبة الإصابة بين المساجين. ومن ضمن هذه العوامل هي الظروف البيئيّة السيئة (سوء التهوئة) والاتّصال الوثيق الّذي لا يمكن تجنّبه والاكتظاظ المُفرط والوصول المحدود إلى خدمات الرعاية الصحيّة. إذ يمكن أن تنتقل العدوى بين السّجناء والموظّفين وزّائري السجون، بحيث تنتقل إلى خارجها. على هذا النّحو، تعدّ السّجون وغيرها من أماكن الاحتجاز جزءًا لا يتجزّأ من المجالات التي يقتضي أن تستهدفها سياسات الصحّة العامّة لمكافحة هذا الوباء. في هذا الإطار، أصدرت منظّمة الصحّة العالميّة في ٢٣ آذار توصيات مؤقّتة بشأن إدارة أزمة فيروس "كورونا"، تحت عنوان "التّأهّب والوقاية والسيطرة على كوفيد-١٩ في السّجون وأماكن الاحتجاز الأخرى"، بناءً على توصيات المنظّمة، الّتي اعتبرت سابقًا أنّ الجهود المبذولة للسّيطرة على انتشار الوباء يمكن أن تفشل إذا أهملت تدابير مُكافحة العدوى في السّجون. كما دعت مفوّضة الأمم المتّحدة السّامية لحقوق الإنسان ميشيل باشيليت الحكومات إلى اتّخاذ إجراءات عاجلة، ضمن إطار الجهود الشّاملة المبذولة لاحتواء تفشّي فيروس كورونا، تهدف إلى حماية صحّة وسلامة الأشخاص المحتَجَزين في السّجون وفي المرافق المُغلقة الأخرى. إلا أنه لا تزال العديد من الدول، بما فيها لبنان، تتجاهل قوانينها الوطنية والمعاهدات الدوليّة المتعلّقة برعاية السجين وصحته، ممّا يؤدّي إلى قلقٍ حقيقيّ لدى المُعتقلين والمُحتَجزين في ظلّ هذه الأزمة العالمية. فيما تنسى السلطات السياسيّة أو تتناسى أنّ هدف مؤسّساتها السجنيّة هو العقوبة لا الانتقام، من أجل تحقيق العدالة الجنائيّة. إذ تطوّرت أنظمة العقاب على مرِّ القرون (فوكو، 1975)[1]، لتصبح الجريمة مجرّد "خرق للميثاق الاجتماعيّ"، وعليه يتمّ تصحيح هذا الجسد الاجتماعيّ دون توليد الرّعب، بل من خلال "التكفير عن الذّنب". فما بالكم بالرّعب الّذي يعيشُه السّجناءُ في لبنان، في ظلّ انتشار هذا الوباء؟ هذا من دون أن نتحدث عن التّعذيب الّذي يَطالُهم. وفي هذا السياق، طلبت أكثر من ٥٠ منظّمة أوروبيّة، والمنظّمة العالميّة لمُكافحة التّعذيب وشبكة SOS-Torture العالميّة التّابعة لها ومنظّمة الإصلاح الجنائيّ الدّوليّ، واللّجنة الأوروبيّة لمنع التّعذيب والمعاملة أو العقوبة اللّاإنسانيّة أو المهينة والحركة العالميّة لحقوق الإنسان، والمركز اللّبناني لحقوق الإنسان، وجمعيّة "ريستارت"، باتّخاذ إجراءات فوريّة للحفاظ على صحّة حقوق وكرامة السّجناء، بما في ذلك للأشخاص الأكثر ضعفًا، في لبنان.

"تعدّ السّجون وغيرها من أماكن الاحتجاز جزءًا لا يتجزّأ من المجالات التي يقتضي أن تستهدفها سياسات الصحّة العامّة لمكافحة هذا الوباء"

واعتراضًا على الظروف السجنية التي ذكرنا سابقًا، ونظرًا لغياب الاستجابة في ظل أزمة تفشي وباء "كورونا"، وقعت أعمالُ شغبٍ في ١٦ آذار-مارس ٢٠٢٠ في سجنَي رومية وزحلة المكتَظَّين في لبنان. وجاءت هذه الأحداث بعد طلب السّجناء إطلاق سراحهم مؤقتًا خوفًا من انتشار الوباء داخل السجون، وقبل أن يبدأ ١٢ سجينًا إضرابًا عن الطعام. ليست هذه المطالب جديدة وهي تتعلّق بشكلٍ رئيسيٍّ بالأشخاص المحتَجَزين بسبب ما يسمّى بـ "الجرائم البسيطة". وفي ٢٣ آذار –مارس ٢٠٢٠، واصل ٩٠٪ من السّجناء إضرابهم عن الطّعام باستثناء المسنّين والمرضى، للمُطالبة بالعفو العامّ. كذلك المُطالبة بحقّهم في الاطّلاع على جميع المخاطر الصحّيّة في ظلّ كوفيد-١٩، إذ باتت تقتصر الزيارات اليوم على فردٍ من أفراد الأسرة، في غرفِ الزّيارة المُعتادة مع جهاز فصل. في لبنان ٢٢ سجنًا تابعًا لوزارة الدّاخليّة، باستثناء ٣ سجون تابعة لوزارة الدّفاع لا يسمح للمحامين بالدخول إليها ولا يُعرف عدد الموقوفين الأمنيين فيها هي "الريحانيّة" وسجن وزارة الدّفاع وسجن ثكنة فخر الدّين. أمّا باقي السجون فهي تحت إدارة وزارة الداخليّة، رغم أنّ المرسوم رقم ١٧٣١٥ بتاريخ٢٨- ٨-١٩٦٤ينصّ على نقل إدارة السجون من عهدة قوى الأمن الداخلي إلى وزارة العدل. إن إدارة السجون من قبل قوى الأمن يؤدّي إلى سوء الرعاية الطبّية، حيث أنّ الأطباء المُشرفين على السجون يأتمرون من ضابط لا يفقه في الصحّة ويعتمد مقاربة أمنيّة، بدلًا من أن يكون موكّلًا من وزارة الصحّة ويطبّق سياسات صحيّة ذات هدف رعائي صحّي بَحت. وهُنا نتساءل حول الكفاءة المهنيّة وأخلاقيّات وواجبات المهنة لهؤلاء الأطبّاء، فكيف يستطيعون الجمع بين قَسَم أبقراط وتطبيق أوامر أمنيّة. يضاف إلى ذلك، عدم وجود الكفاءات الضروريّة، كما هي الحال في العيادة الطبيّة المجهّزة من قبل جمعيّة "ريستارت" في سجن القبّة، والتي لا تزال شبه خالية بسبب عدم وجود أطبّاء متخصّصين باستعمال آلات الفحص. وكذلك افتقار السجون اللّبنانية منذ زمن إلى معدّات طبية، كما تبيّن في ظلّ الأزمة عدم وجود أو شحّ في المعدّات الأساسيّة كميزان الحرارة أو آلة قياس ضغط الدمّ في السجون.

"لا يزال العديد من الدول، بما فيها لبنان، تتجاهل قوانينها الخاصّة والمُعاهدات الدّوليّة المتعلّقة برعاية السجين وصحته"

يتراوح عدد السجناء والموقوفين في لبنان بين ٧٤٠٠ و٨٠٠٠ موقوف وسجين، ويبلغ عدد السجناء ٦٥٠٢، أي ما يُعادل ١٢٨ لكل ١٠٠٠٠٠ فرد، منهم ٢٨٦ امرأة (٤.٤٪). بالمقارنة بين فرنسا وتونس ولبنان[2] يبلغ عدد السّجناء في فرنسا ٧٠٠٩٥ أي ١٠٤ سجناء لكلّ ١٠٠٠٠٠ مواطن، منهم ٢٥٣٤ امرأة (٣.٦٪). أمّا في تونس، فيبلغ عدد السجناء ٢٣٥٥٣، أي ما يُعادل ٢٠٦ سجناء لكلّ ١٠٠٠٠٠ مواطن، من بينهم ٦٥٩ امرأة (٢.٨٪). كما يبلغ معدّل كثافة السّجون في كلٍّ من هذه البلدان: ١١٦.٥٪ في فرنسا ويتوزع السجناء على ١٨٥ مؤسّسة، ١٣٩٪ في تونس ويتوزعون على ٢٧ مؤسّسة و١٨٦٪ في لبنان حيث يتوزع السجناء على ٢٢ مؤسّسة. يتّسع سجن رومية في لبنان مثلًا لـ ١٥٠٠ سجين بينما يقبع فيه ٤٥٠٠ سجين، أمّا مبنى الأحداث فهو يتّسع لـ ٣٠٠ شخص يقتنه اليوم ١٠٤٧ سجينًا من جميع الأعمار، بين مرتكب جنحة وجريمة، في تجاهل تامّ للقانون وللأخلاق ولعنصر الفعاليّة، أمّا سجن القبّة في شمال البلاد، فهو يتّسع لـ ٤٥٠ سجينًا، بينما يقبع فيه ٨١٧ سجينًا.

بالإضافة إلى ذلك، فقد تحوّلت النّظارات ومراكز التّوقيف في لبنان إلى سجون، بسبب الاكتظاظ، إذ أنّ هناك ١٢٥ شخصًا تحت الأرض في نظارة قصر العدل في طرابلس. هذه النظارة مؤهّلة لأن يقبع فيها الموقوف ٤ أيّام كحدٍّ أقصى، لكن حاليًا يقضي  الموقوف في معظم الأحيان نحو سنة بانتظار نقله.

يعود الاكتظاظ داخل السّجون إلى عدّة أسباب، أهمّها، إصدار مذكّرات توقيف غيابيّة ثمّ الاعتقالات العشوائيّة. تقع مسؤوليّة الاكتظاظ على الأجهزة القضائيّة الّتي لا تلتزم بالمادّة ١٠٨ من قانون أصول المُحاكمات الجزائيّة. إذ وضعت هذه المادّة سقفًا للتّوقيف الاحتياطيّ بالجنح مدّته شهران قابلَان للتّمديد شهرين آخرَين بقرارٍ من المحكمة. أمّا في الجنايات، فقد حدّدت مدّة التوقيف ٦ شهور قابلة للتّمديد ٦ شهور أخرى، على أن يتمّ إخلاء سبيل المتّهم بعد هذه الفترة إذا لم تتمّ محاكمته، باستثناء جرائم أمن الدّولة، والقتل والمخدّرات. وغالبًا ما يصدر الحكم بعد ٣ أو ٤ سنوات يبقى خلالها الموقوف سجينًا.

بانتظار أصحاب القرار، قامت نقابتا المحامين في طرابلس وبيروت بإطلاق خطّة عمل قضائيّة وصحّيّة. تتضمّن إلزام القضاء اللّبنانيّ احترام المادّة ١٠٨ على الأقلّ بحدّها الأدنى. تمّ جمع، على سبيل المثال، في الشّمال، طلبات إخلاء السّبيل من سجون لبنان، والتّنسيق مع مُدير عامّ التّمييز الذي أعطى كامل الصّلاحيّة وكامل التّسهيلات لهذه المُبادرة، وأُخليَ في أسبوع سبيل ١٤٢ سجينًا. كما شملت الخطّة الصحيّة، تعاونًا مع نقابات المهن الحُرّة: الأطبّاء، وأطبّاء الأسنان، ونقابة الهندسة، كما توزيع أدوات التّعقيم على كافّة السّجون في لبنان بالتّعاون بين نقابتَي المُحامين في طرابلس وبيروت.

"للاستجابة بفعاليّة لتفشّي فيروس كورونا في السّجون، يجب على السلطات اللّبنانية تطبيق المرسوم ١٧٣١٥. وتطبيق نظام حديث يؤمّن التنسيق بين قطاعَي الصحّة والعدالة، ونشر الوعي لدى السجناء وموظفّي السجون وتدريبهم على كيفيّة حماية أنفسهم والآخرين، وضمانة احترام جميع حقوق الإنسان في هذه المؤسّسات"

في ظلّ هذه المبادرات الحرّة، اقترح مُدير عامّ التمييز السوار الالكتروني لتحرير السجناء ومتابعتهم عن بُعد. من جهتها، لا تزال وزيرة العدل ماري كلود نجم تعمل على الإفراج المَشروط عن السّجناء الّذين ينتظرون المُحاكمة أو السّجن بسبب ما يسمّى بالجرائم البسيطة. بذلك، يكون لبنان انتقل ربّما من سياسة الإغلاق الى سياسة الانفتاح مع السّجناء، على غرار الدّول الأخرى مثل فرنسا وتونس. أخيرًا، لقد عرّت هذه الأزمة السلطات اللّبنانية أمام المجتمع الدولي وأظهرت عدم التزامها بالقرارات والمُعاهدات الدوليّة، وأيضًا بتنفيذ القوانين اللّبنانية، بل تقيّدها البديهي بمحاصصتها الطائفيّة حتى في ظلّ الكوارث والأزمات، كما كشفت عن سوء الرعاية الصحّية في السجون. لذا، وللاستجابة بفعاليّة لتفشّي فيروس كورونا في السّجون، يجب على السلطات اللّبنانية تطبيق المرسوم ١٧٣١٥. وتطبيق نظام حديث يؤمّن التنسيق بين قطاعَي الصحّة والعدالة، ونشر الوعي لدى السجناء وموظفّي السجون وتدريبهم على كيفيّة حماية أنفسهم والآخرين، وضمانة احترام جميع حقوق الإنسان في هذه المؤسّسات. كما تتطلّب حالة الطّوارئ أو التعبئة العامّة اتّخاذ تدابير خاصة بالسّجون وغيرها من الأماكن المغلقة لمنع تفشّي الوباء، بالإضافة إلى ضرورة تطبيق والعمل بالمادّة ١٠٨ لتخفيف الاكتظاظ في النظارات والسجون. ______ 1. Foucault, M. (1975) Surveiller et punir, naissance de la prison, Paris : Gallimard. 2. يبلغ عدد سكان فرنسا ٦٦,٩٩٢,٦٩٩، تونس ١١٬٣٠٤٬٤٨٢ ولبنان ٥,٦٠٠,٠٠٠.


محمد صبلوح، محامي، مقرّر لجنة السجون في نقابة المُحامين في طرابلس. ماري قرطام، باحثة في العلوم الاجتماعيّة، في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى IFPO-بيروت، ودار العُلوم الإنسانيّة FMSH-باريس.

تنضمّ مقالة الرأي هذه إلى سلسلة مقالات جديدة أطلقها معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت للتأمّل في تأثير جائحة فيروس #كورونا #كوفيد-١٩ على مُختلف الأصعدة كالاقتصاد (العالمي والوطني) والعَولمة والتعدّدية والتعاون الدولي وأنظمة الصحّة العامّة والنظام التعليمي وأزمة اللّاجئين، بالاضافة إلى مسائل أخرى.

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.