Blog

  • Home
  • Blog
  • قراءة في مفهوم النيو ليبرالية لاحتياجات الفرد في زمن كوفيد-١٩

قراءة في مفهوم النيو ليبرالية لاحتياجات الفرد في زمن كوفيد-١٩

د. حسن دهيني |الجمعة، ٢٨ آب ٢٠٢٠ | ٢٧#

neoloberal

تطوّرت المُجتمعات البشرية على مدار التاريخ، بدءًا من الصيّادين-الجامعين الذين أظهروا اعتمادًا قويًا على بيئتهم قبل نحو عشرة آلاف عامًا، إلى البستنة والزراعة حيث سمحت الأمطار والأدوات المُبتكرة بإنتاج ومداورة أنواع مُختلفة من المحاصيل وبشكلٍ مُستمر في بعض البقع الجغرافيّة، ممّا أدّى إلى نشوء مُستوطنات بشرية منذ ما قبل الميلاد بحوالي ثلاثة آلاف سنة. نمت هذه المستوطنات لتتحول إلى بلدات ومدن فأصبحت مراكز للتجارة، وأصبحت لاحقًا نظام اجتماعي سياسي عُرف بالنظام الإقطاعي بداية القرن التاسع امتدادًا إلى القرون الوسطى حيث وفّر الإقطاعيّون الأرض والاحتياجات الأساسية للعمال مقابل ولائهم وخدمتهم. في القرن الثامن عشر، دفع اكتشاف الوقود الأحفوري الاقتصاد العالمي إلى مستوى جديد ودخل العالم حقبة الثورة الصناعية. توافد العمال إلى مناطق المصانع من أجل الوظائف وحياة الحضر. وتركّزت اهتمامات الجيل "الصناعي" الجديد على اكتساب الثروة وارتقاء السلم الاجتماعي على حساب الحفاظ على الأرض والإرث العائلي، بينما تركزت اهتمامات أصحاب المصانع والرساميل على زيادة الإنتاجية وتحقيق الأرباح بشكلٍ كبيرٍ.

في سبيل تحقيق إنتاجيّة أكبر ونمو أسرع، عملت أنظمة الرأسمالية والاقتصاد النيو ليبرالي الحرّ على تسويق وترسيخ فكرة قوامها أن حياة الفرد وشعوره بالرضا وحاجاته النفسية تتمحور بشكلٍ أساسي حول العمل والإنتاج الوظيفي. وقد اجتاح هذا المفهوم المجتمعات الغربية بشكلٍ واسع وساعدت العَولمة في عبوره إلى المجتمعات الأخرى دون أي قراءة متأنية أو تدقيق. يزعم كثيرون أن الارتفاع المُفرط لساعات العمل في المجتمعات الصناعيّة، لا سيما في مجتمعات الاقتصاد النيو ليبرالي الحرّ والأنظمة الرأسمالية، إنما هو مقايضة عادلة وضرورية مقابل تحقيق الذات وحياة الرفاهية والحصول على أدواتها المادية الفاخرة. فكيف نقيّم "مفهوم النيو ليبرالية لاحتياجات الفرد" ووفقًا لأي معايير؟

"فضحت جائحة كورونا زيف ادّعاء النيو ليبرالية وبيّنت أن تَمحوُر حياة الفرد حول العمل بشكلٍ مُفرط لا يسدّ حاجات الإنسان النفسية فقط، بل يكون مُضرًا، خصوصًا لناحية الحدّ من التواصل البشري كحاجة أساسيّة."

أولًا، ومن الناحية النفسية، بحسب هرم الاحتياجات لعالم النفس الأميركي الشهير أبراهام ماسلو، فإن الدماغ البشري يندفع، ابتداءً من قعر الهرم، بغريزة أساسيةٍ للبقاء عبر تأمين الطعام والشراب والمأوى. في المستوى الثاني، يتكوّن الهرم النفسي من احتياجات السلامة، فيما يشمل المستوى الثالث من نموذج ماسلو الاحتياجات الاجتماعية، ولا سيما تكوين العلاقات البشرية مع الأسرة والأصدقاء والمحيط الأوسع. بينما يقبع في رأس الهرم المستويان الرابع والخامس اللّذان يتمحوران حول تحقيق الإنجازات والشهرة والنمو الشخصي وتحقيق الذات. مما يعني، وفقًا لماسلو، أنه مباشرةً بعد الأمن والغذاء، فإن الانتماء إلى بيئة اجتماعية سياسية، والتفاعل معها، قوة دفع رئيسية لسلوكنا وصحتنا النفسية وليس مسألةً هامشيّة. تنتقد الدكتورة باميلا روتلدج، خبيرة علم النفس الإعلامي، نظرية ماسلو، فتعيد ترتيب هرمه وتذهب إلى ما هو أبعد منه، حيث تعتبر أن بقاء الإنسان على قيد الحياة ونظام احتياجاته من أدنى الهرم إلى أعلاه، من تأمين طعام ومسكن وأمان وتكاثر واكتساب مهارات وبناء الثقة بالنفس والشعور بالانتماء، يعتمد بالكامل على تكوين العلاقات البشرية والتواصل مع المحيط. يظهر هرم ماسلو، معطوفًا على مقاربة روتلدج في إعادة ترميمه، مناقضًا لمفهوم النيو ليبرالية لاحتياجات الفرد. تتكشف عورات هذه الكذبة الرأسمالية أكثر مع انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-١٩)، المصحوب بحجر تامّ وإغلاق كامل. فجأةً، تظهر الحاجة لإعادة تفعيل التواصل مع الأسرة والأصدقاء المقرّبين، ومُمارسة الهوايات وتنمية المواهب وتأمّل الطبيعة، كأعمال مجزية وأكثر إرضاءً من الجوائز المهنية والشهادات الوظيفية والميداليات الإنتاجية. في نفس الوقت، يُظهر حجر كورونا حاجة أخرى، هي حاجة الانسان للوقت للتواصل مع الذات، أو مع الخالق، والمُراجعة الذاتيّة كحاجة إضافية للتعلم من تجارب الماضي.

يمكن الاستنتاج، من الناحية النفسية، أنّ جائحة كورونا فضحت زيف ادعاء النيو ليبرالية وبيّنت أن تَمحوُر حياة الفرد حول العمل بشكلٍ مُفرط لا يسدّ حاجات الإنسان النفسية فقط، بل يكون مُضرًا، خصوصًا لناحية الحدّ من التواصل البشري كحاجة أساسيّة. تَظهر هشاشة وخطورة هذا المفهوم بشكلٍ جليٍ أكثر عندما تقوم المؤسسات خلال الأزمات، كأزمة كوفيد-١٩ العالمية، أو كالأزمة الاقتصادية المحليّة الحالية في لبنان، بتسريح جماعي للعمال والموظفين بذريعة خفض كلف الإنتاج و"إنقاذ المجموعة" على حساب الفرد. فيشعر الأفراد الذين اعتنقوا مفهوم النيو ليبرالية للاحتياجات هذا بالتدمير النفسي الكبير والخيانة لحظة طردهم من وظائفهم أو خسارة أعمالهم. من ناحية أخرى، إن التسويق لمفهوم النيو ليبرالية للاحتياجات المهووسة بالأرباح والإنتاجية لا يؤثر فقط على الصحّة النفسية للفرد، بل يتعدّاه في التأثير على المجتمع ككُل عبر زيادة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين مكوناته وزعزعة أسس العدالة الاجتماعية والمساواة. فهو يساعد المجموعات التي تسيطر على وسائل الإنتاج على مراكمة الثروات أكثر بكثير من العمّال والموظفين الذين عملوا على إنتاجها.

"تهتز ثقتنا أكثر بمفهوم النيو ليبرالية للاحتياجات عندما نتأمّل في ضعف أخلاقيات النظم التي ترعاها."

علاوةً على ذلك، يزيد هذا المفهوم من الفجوة الاجتماعية الاقتصادية على نطاق عالمي بين المجتمعات المنتجة في البلدان الصناعية والمجتمعات المستهلكة في البلدان النامية. في نفس الوقت، يؤثر هذا المفهوم الرأسمالي سلبًا على مبدأ التنمية المستدامة، من خلال التشجيع على المزيد من الاستهلاك للطاقة والمواد، فيزيد من حجم البصمة الكربونية لكل فرد، ويسبب زيادة بمعدلات النفايات والتلوث، ويفاقم مشكلة التغيرات المناخية، ممّا يسبب بالتالي اختلالاً بالأنظمة البيئية ويضر بالصحة العامّة. تهتز ثقتنا أكثر بمفهوم النيو ليبرالية للاحتياجات عندما نتأمّل في ضعف أخلاقيات النظم التيترعاها. يعتبر الباحث والفيلسوف الفرنسي أندره كونت سبونفيل أن الرأسماليَّة نظام اقتصادي فائدته استعمال الثروة لتوليد المزيد من الثروة، يقوم على الأنانية والأثَرة الفرديَّة في تكديس رأس المال ولا يُقيم اعتبارًا لأي شي آخر. نرى ذلك بوضوح عندما يواجه هذا النظام الأزمات. فعلى سبيل المثال، وفي خضم أزمة كوفيد-١٩ الحالية، غاب التضامن بين مكونات الفيدرالية الواحدة واتحاد الدول الواحد والحلفاء، وتعداه إلى مصادرة متبادلة وسرقة معدات الوقاية الطبية، واحتكار إنتاج العلاجات، والتنافس غير الشريف لاكتشاف اللقاحات. من ناحية أخرى تُظهر أيضًا أزمة كوفيد-١٩ النزعة العرقية والتمييز العنصري الذي يعيش في أحشاء هذا النظام ويتغذى من موارده. فبحسب العديد من التقارير، تؤدي العنصرية الهيكلية في النظام إلى فوارق عرقية في أنماط كوفيد- ١٩، حيث تشير البيانات المتاحة إلى أن الأشخاص من ذوي البشرة الداكنة هم أكثر عرضة للمعاناة من المرض بسبب التمييز العرقي في نظام الرعاية الصحية.

"ما يحتاجه عالمنا هو تطوير نظام جديد لاحتياجات الأفراد يحقق نوعية حياة وصحّة أفضل، يقوم على تشجيع الروابط البشريّة بين الأفراد وبين المجتمعات المختلفة، وتحفيز العودة إلى بناء العلاقة بين الإنسان والأرض ومحاربة هيمنة ثقافة الاستهلاك، وإعادة الاعتبار إلى منظومة القيم في السياسات المحليّة وفي العلاقات بين الدول."

في الخلاصة، يظهر مفهوم النيو ليبرالية للاحتياجات الإنسانية المتمركز حول العمل مخادعًا على المستوى النفسي، مناقضًا لمبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة، مضرًا بالبيئة والصحة العامة، ويشكّل ركنًا من أركان نظام جشع، يعتمد منظومة قيم وأخلاقيات اقتصادية واجتماعية - سياسية قاسية ومقلقة، عماده تسخير كل الثروات بما فيها الثروة البشرية لتكديس المال، وهو غير معني باحتياجات الأفراد داخل منظومته أو في المجتمعات البشريّة الأخرى. يبدو فيلسوف السياسة والاقتصاد الأميركي المعاصر فرانسيس فوكوياما مخطأً، فالديمقراطية الغربية النيو ليبرالية ليست النموذج الأصلح لكي تكون نهاية التاريخ أو أن تكون آخر نقطة للتطور الإيديولوجي للإنسانية، ولا تخوّله نقاط ضعفه الكثيرة أو آثاره السلبية أن يكون الشكل النهائي للحكم البشري كما يتمنى فوكوياما. ما يحتاجه عالمنا هو تطوير نظام جديد لاحتياجات الأفراد، يكونُ معاكسًا لمفهوم النيو ليبرالية السائد، يحقق نوعية حياة وصحّة أفضل، يقوم على تشجيع الروابط البشريّة بين الأفراد وبين المجتمعات المختلفة، وتحفيز العودة إلى بناء العلاقة بين الإنسان والأرض كما أسلافنا الصيّادين-الجامعين منذ بدء التاريخ المجتمعي، ومحاربة هيمنة ثقافة الاستهلاك، وإعادة الاعتبار إلى منظومة القيم في السياسات المحليّة وفي العلاقات بين الدول. ولكن في نفس الوقت، يجب أن يُأخذ في الاعتبار التحوّل الذي يشهده العالم اليوم نحو المجتمع الرقمي، وجنوحه نحو التفاعل البشري الافتراضي بدل التفاعل الحقيقي، والذي سارع من وتيرته بشكلٍ كبيرٍ انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد.

 


حسن دهيني، أستاذ في كلية الصحّة العامّة، الجامعة الأميركية في بيروت

تنضمّ مقالة الرأي هذه إلى سلسلة المقالات الّتي أطلقها معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت للتأمّل في تأثير جائحة فيروس #كورونا #كوفيد-١٩ على مُختلف الأصعدة كالاقتصاد (العالمي والوطني) والعَولمة والتعدّدية والتعاون الدولي وأنظمة الصحّة العامّة والنظام التعليمي وأزمة اللّاجئين، بالاضافة إلى مسائل أخرى.

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.